الطبيعة والسيادة... تنمية الوعي البيئي!
بعد فشل العديد من المؤتمرات الدولية حول البيئة وسبل مكافحة الاحتباس الحراري والتغير المناخي، اتجه العديد من نشطاء اليسار البيئي لطرح المسألة البيئية في سياق جديد، هو إعلان فشل الحكومات، أو الدول بمفهوم أشمل، في احتواء تحدٍّ كوني بكل هذه الأهمية والمصيرية، وذلك لأسباب سياسية وإيديولوجية، بل وتصورية إدراكية، تجعل الدولة -أو السيادة- مفهوماً فلسفياً وسياسياً مؤسساً لكافة أشكال استنزاف واستهلاك الظرف البيئي، من الأساس. وفي سياق هذا الطرح النظري يأتي كتاب المؤلف الفرنسي جيرار مايريه: "الطبيعة والسيادة"، الذي نشير هنا بإيجاز شديد إلى بعض الأفكار العامة والأطروحات الأساسية الواردة فيه. والمؤلف "جيرار مايريه" هذا أستاذ علوم سياسية بارز في جامعة باريس رقم 8، وقد أصدر من قبل كتباً مهمة في سياقات ذات صلة بموضوع كتابه الراهن، منها "مبدأ السيادة" و"تاريخ وأسس نظام الحكم المعاصر" وقد صدرا في عام 1997 و"خرافة العالم" الصادر أيضاً في عام 2005. وقد تتبع في الكتابين الأولين بشكل خاص مفهوم السيادة، منذ ظهور الدولة الوطنية أو الدولة- الأمة، مبرزاً أنه أعطى لمختلف الشعوب إحساساً بخصوصيتها، وبقدرتها على اتخاذ ما تراه مناسباً لمصالحها من قرارات، وإن كان مفهوم السيادة، بإطلاق معنى الكلمة، لم يعد أيضاً متوائماً الآن مع مقتضيات وظروف القرن الحادي والعشرين، بحسب ما يرى الكاتب، نظراً لترابط العالم واعتماده المتبادل، وعدم استطاعة أية دولة أو أمة العيش منفردة في قراراتها وخياراتها عن بقية الأمم، الذي يشترك معها، شاءت أم أبت، في منافع ومصالح العالم، ويتحمل إلى جانبها أيضاً المسؤولية التضامنية عن كوارثه.
وفي سياق هذا الاعتماد المتبادل والمسؤولية التضامنية عن سلامة موارد وبيئة العالم يطرح "مايريه" الإشكالية الأساسية في كتابه هذا، الذي تصطف على عنوانه عبارتان نادراً ما نراهما مترافقتين هما: السيادة والطبيعة! وفي البداية يبرز الكاتب أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة في التصور الحداثي، بل الإنساني الكلاسيكي عموماً، هي أن الطبيعة مسخرة لتحقيق مطالب الإنسان، وبالتالي فإن الإنسان هو الذات المراد توفير مصادر إرواء حاجاتها، في حين أن الطبيعة هي الموضوع، أي مصدر إرواء هذه الحاجات. ومن ثم فإن الطبيعة تعتبر وجوداً قائماً خارج الكيان الإنساني، وإن كانت هي مجال وموضوع فاعلية الوجود الإنسان. وبعبارة أخرى فإن العالم الواقعي، أو لنقل الطبيعة، ليس شيئاً آخر غير محيط حيوي يستخدمه الإنسان، ويمتلك السيادة عليه، بشكل مطلق. ومن هنا جاءت كافة أشكال استنزاف واستهلاك، بل إهلاك، موارد الطبيعة، دون أي إحساس بالخطأ أو الخطر. وقد حفزت الدول في عهد ما بعد الثورة الصناعية أشد غرائز الاستهلاك والإهلاك تلك، تحت دعاوى تحقيق رغبات أفراد سكانها من جهة، وأيضاً ممارسة سيادتها واستغلال مواردها في مجالها الحيوي من جهة أخرى.
بل إن مفهوم الدولة الحديثة نشأ أصلاً استناداً إلى فكرة ضمنية مؤداها أن على البشر الاجتماع وتوحيد جهودهم، وتنظيم العمل والمهام والأدوار فيما بينهم، لمكافحة الطبيعة والسيطرة عليها واستغلالها لمصالح الإنسان. وقد بلغت عملية تسييس العلاقة بين الإنسان والطبيعة ذروتها مع ظهور الدولة الرأسمالية خاصة، يقول الكاتب، التي فتحت شهية كافة أنواع الرغبات الاستهلاكية، واخترعت من الآلات والأدوات الإنتاجية ما هو كفيل باستنزاف موارد الطبيعة، إلى أقصى حد ممكن.
وفي طرح لا يخلو من تفلسف، وقابل أيضاً لأن يتهم بالتأملية، يقول الكاتب إن مشكلة البشر هي أنهم ظلوا دوماً ينظرون إلى الطبيعة -أو لنقل البيئة- باعتبارها وجوداً خارجياً بالنسبة لهم، في حين يتعين عليهم أن يفطنوا إلى أنها وجود داخلي أيضاً، لأن الأزمة البيئية "الإيكولوجية" الراهنة تؤثر في وجودنا الفردي والجماعي على حد سواء، كما تظهر تناقضات بعض المبادئ والأسس السياسية التي تقام عليها الدول المعاصرة. ولذا فلابد من البحث عن حلول جذرية للمشكلة البيئية في الوعي الفردي، وليس في سياسات الدول التلفيقية. وأولى خطوات إصلاح الوعي الفردي تجاه البيئة هي تغيير مفهومنا على الطبيعة نفسه.
وفي الأخير يقول الكاتب إنه يعرف أن وضع مفهوم البيئة في سياق فلسفي والحفر في جذوره المتأسسة على علاقة الإنسان بالطبيعة، الذات بالموضوع، ليس وحده كافياً لرفع الوعي البيئي لدى الناس، إلا أن طرح المشكلة من هذه الزاوية، يساعد على كل حال، في فتح مجال التأمل واسعاً فيها، وهذا هو المهم، في هذه المرحلة.
حسن ولد المختار
الكتاب: الطبيعة والسيادة
المؤلف: جيرار مايريه
الناشر: مطابع العلوم السياسية
تاريخ النشر: 2012