فلسطين من جديد... شكراً رومني!
بتصريح واحد غير صحيح وغير حساس وغير محايد، قام المرشح الجمهوري الرئاسي المفترض ميت رومني، بتركيز اهتمام وسائل الإعلام الأميركية على تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني. فتصريح رومني الذي قال فيه إن "الثقافة تحُدث كل ذلك الفرق"، والذي قدمه كتفسير من جانبه للتفاوت بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني، كان جد منفصل عن الواقع لدرجة أنه أثار كماًّ غير مسبوق من التعليقات الصحفية في الولايات المتحدة وأوروبا. ففي اليومين اللذين أعقبا ذلك التصريح، بلغ عدد المرات التي ذكر فيها "الاقتصاد الفلسطيني" في وسائل الإعلام أكثر من 6700. كما نشرت معظم الصحف الأميركية الرئيسية مقالات وتعليقات وحتى افتتاحيات تعبر عن اختلافها مع التصريح الذي أدلى به رومني، مسلطةً الضوء على السياسات الإسرائيلية القمعية، وليس "الثقافة الأدنى مرتبة"، كسبب للأداء الضعيف للاقتصاد الفلسطيني. ومعظمها أكد هذه الفكرة عبر الإشارة إلى ما قاله البنك الدولي من أن "القيود الأمنية التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية ما زالت تعيق الاستثمار الفلسطيني"، وكذلك التقرير السنوي لـ"وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية، والذي أفاد بأن "سياسات الإغلاق الإسرائيلية ما زالت تعرقل تدفق العمالة والتجارة، والقدرة الصناعية، والتجارة الأساسية... كما أدت إلى تفشي البطالة، وارتفاع معدلات الفقر، وشبه انهيار القطاع الخاص".
واللافت هو أنه إذا كانت تلك التقييمات ليست جديدة، فقد كان لابد من تصريحات رومني من أجل جلبها إلى دائرة الضوء. فعندما نُشر أحدث تقرير للبنك الدولي قبيل بضعة أيام، فإنه لم يلق أي اهتمام تقريباً. وجل ما استأثر باهتمام العديد من الصحافيين هو ما قاله البنك من أن الفلسطينيين يعتمدون أكثر مما ينبغي على المساعدات الخارجية، وأن "اقتصادهم في الوقت الحالي ليس قوياً بما يكفي لدعم … دولة"، وهي عبارة ركز عليها كثيراً خصوم سعي الفلسطينيين إلى إقامة دولتهم.
ومما لا شك فيه أن ثمة تفاوتاً كبيراً جداً بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني، وهو تفاوت أكبر بكثير مما وصفه رومني. غير أنه لم يكن من الضروري أن يكون الأمر على هذا النحو.
في عام 1993، وبينما كان الإسرائيليون والفلسطينيون يوقعون اتفاقات أوسلو، أفرج البنك الدولي عن دراسة من عدة أجزاء حول الاقتصاد الفلسطيني، أشارت إلى تأثير استمرار الاحتلال على الضفة الغربية وقطاع غزة، وما ينتج عن ذلك من اختلال وعدم تطور القطاعات الاقتصادية. ومع ذلك، فقد كان البنك الدولي متفائلاً بشأن روح المقاولة التي تميز الفلسطينيين، وخلص إلى أنه مع الاستثمار في الحرية وفي البنية التحتية، يمكن أن تعرف الأراضي الفلسطينية المحتلة نمواً سريعاً. لكن ذلك لم يحدث أبداً.
وبدلاً من أن يعيش الفلسطينيون الحرية حتى ينموا ويتطوروا، فقد فُرضت عليهم صعوبات جديدة. بل إن الاقتصاد الفلسطيني تلقى في عام 1994 ضربة مدمرة بسبب الإغلاق الإسرائيلي لأراضي الضفة والقطاع. والواقع أن "الإغلاق" الذي كان يعزل الفلسطينيين عن القدس الكبرى ويحدُّ بشكل كبير من التفاعل بين الفلسطينيين وإسرائيل، فُرض في البداية كـ"إجراء وقائي" مؤقت في أعقاب المذبحة التي ارتكبها مستوطن إسرائيلي في حق فلسطينيين في الخليل. لكن "الإغلاق المؤقت" تواصل ولم ينته أبداً.
وخلال الاحتلال، كانت الأراضي الفلسطينية قد حولت من قبل الإسرائيليين إلى اقتصاد مستقل بمصدرين رئيسيين للثروة هما وظائف الأعمال اليومية منخفضة الدخل في إسرائيل، وشركات تصنيع صغيرة تنتج مواد تقوم الشركات الإسرائيلية لاحقاً بتصديرها وعليها ملصق "صنع في إسرائيل". ومع "الإغلاق"، فقد أكثر من 100 ألف فلسطيني وظائفهم في إسرائيل وأُرغمت مئات الشركات الصغيرة على الإغلاق لأن التجارة مع إسرائيل قيدت بشكل كبير جداً.
ومع عملية سلام أوسلو، عرفت إسرائيل رخاءً وازدهاراً في ظل زيادة مهمة في الاستثمارات الخارجية. وفي ذلك الأثناء، وبعد عزلهم عن القدس (مركزهم الاقتصادي)، وحرمانهم من حرية استيراد المواد الخام أو تصدير المنتجات المحلية، ضعف الاقتصاد الفلسطيني وأصابه الوهن.
وفي عام 1995، أدليتُ بشهادتي أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي حول الاقتصاد الفلسطيني وسُئلت: لماذا لم يستطع عرفات أن يكون مثل مانديلا جنوب إفريقيا أو يلتسن روسيا، ويشرف على خلق اقتصاد سوق حر وقوي في الأراضي الفلسطينية؟ فأشرتُ في جوابي إلى أن مانديلا ويلتسن توليا زمام الأمور في دولتين قائمتين ومستقلتين، لديهما بنى تحتية متطورة وسيطرة على الموارد والحدود، وبالتالي فهما تمتلكان القدرة على الإنتاج والتجارة وتنمية اقتصادهما بحرية. وبالمقابل، فإن "فلسطين" عرفات ليس لديها أي من هذه الميزات، والسلطة التي ترأسها عرفات لم تكن لها أي سيطرة على أراضيها أو مواردها أو دخولها أو خروجها. لذلك، فإن الفلسطينيين كانوا غير قادرين على الإنتاج أو التجارة أو النمو. وبينما كان الإسرائيليون يستسيغون ثمار السلام، كان الفلسطينيون يزدادون فقراً وأصبحوا أكثر اعتماداً على المساعدات الخارجية، وأكثر تشككاً في "السلام". ولم يكن هذا الوضع غير قابل للاستمرار فحسب، بل كان يمثل وصفة حقيقية للكارثة. ولأن جوابي لم يكن يوافق خطاب "عرفات هو المخطئ"، وهو الخطاب السائد في واشنطن، فقد تم تجاهله.
وتواصل تجاهل هذه الحالة إلى اليوم، مع ما ينطوي عليه ذلك من عواقب بالنسبة للفلسطينيين العاديين. فمنذ أيام أوسلو، تضاعفت المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، لتخلق صعوبات جديدة ومزيداً من الإذلال والغضب. وعلى مدى عقدين من الزمن تقريباً، تسجل غزة، المحاصَرة والمخنوقة، معدل بطالة بين الشباب يناهز 80 في المئة.
ورغم كل هذا، فإن أفضل ما استطاع الكونجرس فعله في الأسابيع الأخيرة هو، مرة أخرى، اقتراح نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وعقد جلسات استماع حول الفساد الفلسطيني، والتهديد بقطع المساعدات الأميركية إذا استمر الفلسطينيون في التهديد بالسعي وراء اعتراف الأمم المتحدة!
ثم ذهب ميت رومني إلى القدس وساعد على تغيير موضوع النقاش، لبضعة أيام على الأقل. لذلك، أقول: شكراً رومني!