المستبدون الذين نحبهم!
خلا خطاب الرئيس المصري الجديد "محمد مرسي" بمناسبة ذكرى "ثورة 23 يوليو" من أي ذكر للزعيم الراحل "جمال عبدالناصر" الذي قاد تلك الحركة التي شكلت الخلفية المرجعية للنظام السياسي المصري خلال نصف القرن الأخير. الخطاب عكس بوضوح تركة الصدام الحاد بين جماعة "الإخوان المسلمين" و"الضباط الأحرار" التي لا تزال حية، على الرغم من الانفتاح الذي سجل مؤخراً بين الاتجاهين الإخواني والناصري.
ومن الجلي أن "جمال عبدالناصر" لا يزال بعد أكثر من أربعين سنة على رحيله أكثر الزعماء السياسيين في مصر شعبية، حتى ولو كانت التيارات السياسية التي تتبنى خطه الفكري والإيديولوجي ضعيفة هشة (وإن كان الناشط الناصري حمدين صباحي حقق مكاسب انتخابية معتبرة في المنافسة الرئاسية الأخيرة).
وفي تونس حالة مماثلة: حزب إسلامي حاكم في تصادم قوي مع تركة زعيم الاستقلال الوطني "الحبيب بورقيبة" الذي رفض الترخيص لحركة "النهضة" وزج بقيادتها في السجون. وعلى الرغم من فوز حزب النهضة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وانهيار الحزب الدستوري (الذي أسسه بورقيبة) وضعف التشكيلات المتفرعة عنه، إلا أن بورقيبة لا يزال في المخيال العام زعيماً واسع الحضور والإشعاع، لم تفت من شعبيته عقود من التهميش أيام خلفه "بن علي" ولا حملة التصفية من الذاكرة التي يقودها ضده اليوم التيار الإسلامي الحاكم.
يكاد يختلف الزعيمان المصري والتونسي في كل شيء، سواء تعلق الأمر بالمسار السياسي أو الخلفية الفكرية والإيديولوجية، أو سياق التجربة وطبيعة المواقف والاتجاهات.
ما الذي يجمع بين المحامي المتخرج من الجامعات الفرنسية والمتشبع بالثقافة الغربية الحديثة الذي عاش طويلًا في السجون الاستعمارية قبل أن يحكم بلاده ثلاثين سنة محاولًا استنبات التجربة الأتاتوركية الوحيدة في البلاد العربية، والضابط القومي العروبي الذي رفع شعار الثورة الاشتراكية ومقاومة الهيمنة الاستعمارية والخطر الصهيوني وشارك في بناء الكتلة الآفروآسيوية وساند حركات التحرر في العالم الثالث؟
من المعروف أن الزعيمين تصادما وتصارعا في بداية ستينيات القرن الماضي بعد أن أعلن "بورقيبة" مبادرته الشهيرة من "أريحا" التي طالب فيها العرب الاعتراف بإسرائيل وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس قرار التقسيم الصادر عام 1948 عن هيئة الأمم المتحدة.
قطعت العلاقات أوانها بين تونس ومصر، وقاطع بورقيبة القمم العربية، وكشفت الأزمة عن عمق الاختلاف بين الزعيمين.
والسؤال الذي نطرحه هنا يتعلق بأسباب هذا الرصيد الشعبي الثابت الذي لا يزال يتمتع به الرجلان بعد عقود من رحيلهما عن الحياة السياسية وعن الدنيا، على الرغم أن مساريهما لم يخلوا من ثغرات ونواقص حقيقية لا يمكن إنكارها؟
صحيح أن عبدالناصر أمّم "قناة السويس" وأعلن الثورة الزراعية التي قضت على أفدح جوانب الاستغلال الطبقي، وأسس لقاعدة صناعية طموحة، ووضع مصر في مركز النظام الدولي، ولكنه ختم عهده بهزيمة 1967 في مواجهة إسرائيل واتسمت تجربته في الحكم بالتسلطية وتعليق الحريات السياسية وبالأحادية الحزبية.
كما أن بورقيبة وإن قاد بلاده إلى الاستقلال وتبنى سياسة تنموية واجتماعية طموحة بنفس تحديثي قوي، إلا أنه انتهج نفس المسلك التسلطي الأحادي في الحقل السياسي في انفصام صريح مع قيم التنوير والعلمنة التي استند إليها في مشروعه الإيديولوجي والمجتمعي.
ومع ذلك كله، لم تحُل هزيمة عبدالناصر دون خروج الحشود الشعبية الواسعة طالبة بقاءه في الحكم أو مشيعة له بعد وفاته ولا يزال الجزء الأوفر من هذا الرصيد حياً، كما لم تحل أخطاء بورقيبة ونزواته السياسية المثيرة في شيخوخته الطويلة دون استقرار صورة الزعيم الوطني المحبوب شعبياً في الشارع التونسي.
إن لهذه الظاهرة حسب اعتقادنا أسباباً عديدة أبرزها أنه على الرغم من السمات التسلطية الجلية في المسار السياسي للزعيمين الراحلين، إلا أنه من الصعب تصنيفهما ضمن الحكام الديكتاتوريين الكثيرين الذين عرفتهم الساحة العربية. كانت البورقيبية نزعة تسلطية أبوية سعت لتحديث المجتمع وخلق هوية وطنية منسجمة عنوة عن طريق كسر البنيات التقليدية وفرض الإجماع الوطني مما أفضى بها إلى إقصاء وقمع القوى السياسية واتجاهات الرأي المعارضة والمخالفة، كما كانت الناصرية نزعة إيديولوجية طوباوية راهنت على قدرة الزعامة الكارزمائية والإقليم- القاعدة على تطويع حركة التاريخ، مما أفضى بها إلى وهم التماهي مع روح الأمة دون الاحتياج لوسائط التمثيل الشعبي.
الفرق إذن شاسع بين الاستبدادية البورقيبية وديكتاتورية "بن علي" التي لم تختلف في الجوهر عن الديكتاتوريات العسكرية المألوفة في السياق العربي الإفريقي. كما أن الفرق جلي بين التسلطية الناصرية ونظام الحكم الاستثنائي الذي تلاها، على الرغم من الانتقال المعلن من "الشرعية الثورية" إلى "الشرعية الديمقراطية التعددية".
والمقارنة في الحالتين قائمة بين تصور إيديولوجي وقيمي للفعل السياسي بصفته نشاطاً جذرياً مثالياً قادراً بذاته على تغيير المجتمع وتثويره (مع ما يؤول إليه هذا التصور من نزوع شعبوي مدمر) وتصور نفعي إجرائي للفعل السياسي مسلكاً للتحكم في الموارد المادية والرمزية للدولة ولو اقتضى الحال توظيف أكثر أدوات الديمقراطية التعددية حداثة وانفتاحاً.
كان بورقيبة يعتقد صادقاً أنه أب "الأمة التونسية" ورمزها، الأدرى بمصالحها، ولم يكن يشكك أي من معارضيه في حسه الوطني ونظافة يده، على الرغم من قسوته في التعامل مع خصومه السياسيين، ولذا شعر كثير من التونسيين بالامتعاض من رفض "راشد الغنوشي" رئيس حركة "النهضة" الترحم على زعيم الاستقلال وباني الدولة الحديثة.
وفي مصر، كانت صورة عبدالناصر حاضرة بقوة في ميدان التحرير أيام الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالنظام السابق وحملت وعود الديمقراطية. ومن المفارقات البديهية، أن الثورة المصرية الأخيرة كرست القطيعة مع مرجعية حركة 23 يوليو التي أسست لاحتكار الجيش للسلطة السياسية، في حين حولت "عبدالناصر" نفسه إلى أحد رموز التحول والتغيير.