إظلام الهند الأكبر
على مدى يومين، وتحديداً في الثلاثين والواحد والثلاثين من الشهر الماضي، تسبب خلل الشبكة الكهربائية في الهند في جعل 600 مليون هندي على وجه التقريب يعيشون من دون كهرباء، وشمل ذلك سكان العاصمة دلهي. وقد تسبب ذلك الانقطاع للتيار الكهربائي في خسائر فادحة للصناعة ونظام المواصلات والاتصالات ومعنويات الشعب في الهند، لم يتم تقديرها بدقة حتى الآن. والسبب في هذا الانقطاع للتيار الكهربائي يرجع إلى مزيج من الضغط القصير الأمد الواقع على شبكة كهربائية مقامة منذ أمد طويل وتحتاج إلى تجديد، بالإضافة إلى مشكلات متعلقة بالطاقة ذاتها. والضغط المفاجئ على تلك الشبكة كان يرجع إلى زيادة استهلاك الكهرباء في موسم الصيف وتأخر هطول الأمطار الموسمية الذي يؤدي إلى نقص كميات الطاقة المستخرجة من الموارد المائية.
وتعود زيادة استهلاك الكهرباء إلى ما أصبحت الطبقة الوسطى في الهند تتمتع به من إمكانيات متزايدة دفعت الكثير من أفرادها إلى اقتناء عدد من أجهزة التكييف في كل منزل من منازلها، كما يرجع إلى لجوء الفلاحين إلى تشغيل الموتورات وطلمبات المياه لري المحاصيل التي أصبحت تعاني من الجفاف بسبب تأخر هطول الأمطار كما أشرنا آنفا. وقد أدى كل ذلك إلى وضع حمل هائل على شبكة توليد الطاقة الكهربائية القديمة مما أدى إلى انهيارها.
وعلى الرغم من أن الانقطاع الشامل للتيار الكهربائي قد استمر لساعات فقط، إلا أنه وجه مع ذلك ضربة قاصمة لكبرياء تلك الدولة الآسيوية التي كان تقدمها وديناميتها يأتيان في المرتبة الثانية في القارة بعد الصين خلال السنوات العشر السابقة، والتي شهدت تنافساً حاداً بين البلدين في العديد من المجالات.
وهذا الانقطاع يمكن أن يدفع كثيراً من المستثمرين الراغبين في دخول السوق الهندية أو حتى هؤلاء الموجودين فيها للتشكك في قدرة الهند على إدامة النمو بنفس الخطوات ونفس الإيقاع اللذين كان يتم بهما ذلك خلال السنوات الماضية. وكما يدفعهم للتساؤل كذلك: هل الخسائر التي تحملوها والتي يمكن أن يتحملونها إذا ما تكرر انقطاع التيار لأي سبب من الأسباب على نحو مشابه على النحو الذي تم به، تجعلهم قادرين على مواصلة العمل في السوق الهندية وتحقيق الأرباح التي كانوا يأملون في تحقيقها، أم أن الأمر يتطلب منهم الانتقال باستثماراتهم لدول أخرى تتمتع ببنية تحتية قوية وشبكات كهرباء متطورة؟
وبالإضافة لذلك فإن الانقطاع الشامل للكهرباء يُبرز مسألتين أخريين: أولاهما التأثير الواضح لظاهرة التغير المناخي في إبطاء تدفق المياه من جبال الهملايا وتقليل كميات المياه في الأنهار اللازمة للري ولتوليد الطاقة الكهربائية. أما المسألة الثانية فهي تواصل اعتماد الهند الحاد والمستمر على طاقة الفحم لتوليد الكهرباء.
فالهند، مثلها في ذلك مثل كافة الاقتصادات الناهضة، في حاجة إلى كميات هائلة من الطاقة لتنمية وتطوير قطاعاتها المختلفة لإخراج الملايين من مواطنيها من دائرة الفقر. والوسيلة الأسهل -وإن لم تكن الأنظف- لتوليد قدر كبير من احتياجاتها من الكهرباء، هي الاعتماد على الفحم كوقود لازم لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، وهو ما يؤدي إلى زيادة تلوث البيئة وزيادة الانبعاثات الكربونية في الجو جراء الاعتماد على تلك الطريقة. ومما يفاقم من هذه المشكلة أن الفحم المستخرج من الهند ليس من أنواع الفحم ذات النوعية الجيدة، مما يعني أن الوضع يستلزم استخدام كميات أكبر من اللازم له لتوليد الطاقة الكهربائية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة تلوث الجو ومفاقمة مشكلة التغيير المناخي.
وعلى الرغم من الاحتياطات الهائلة من الفحم في الهند، فإنه مع تزايد احتياجاتها من الطاقة تضطر إلى استيراد كميات كبيرة من هذه المادة من الخارج، مما يكبدها تكاليف مادية كبيرة سواء كأسعار استيراد أو كنفقات على تطوير شبكة الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومحطات الطاقة اللازمة لاستيراد ونقل الفحم واستخدامه.
ويعني ذلك أيضاً أن الهند بحاجة إلى درجة أكبر من التركيز على موارد الطاقة البديلة مثل الطاقة النووية والغاز الطبيعي، لكن المشكلة بالنسبة لتلك البدائل أنها تحتاج إلى كميات ضخمة من المياه لإنتاجها.
ويمكن للهند بالطبع أن تزيد من وارداتها من الغاز الطبيعي، لكنها سوف تكون في هذه الحالة مضطرة لإنفاق أموال ضخمة قد لا تساعدها ميزانيتها المنهكة على توفيرها من أجل بناء شبكة فعالة لتوزيع الغاز، سواء على المصانع والمؤسسات التي تحتاج إليه، أو لتلبية أحتياجات الاستهلاك المنزلي.
أما آمال الهند في مد شبكة من خطوط الأنابيب اللازمة لاستيراد الغاز الطبيعي، والتي تمتد إليها من إيران عبر باكستان، فسوف تظل غير متحققة طالما استمرت إيران في العمل من أجل تطوير برنامجها النووي الذي يعرضها لعقوبات من الدول الغربية تجعل منها دولة شبه منبوذة، وكلما ظل الوضع الأمني في باكستان غير مستقر وغير متيقن منه.
والخلاصة التي يمكن الخروج بها من الأزمة الحالية في الهند، هي أنه سوف تمر سنوات عديدة قبل أن تتمكن الهند من التحول للاعتماد على الطاقة الخضراء واتخاذ الإجراءات الكافية اللازمة لتقليص كميات الغازات المنبعثة من الجو. وسوف يكون إقدام أي حزب سياسي على اتباع تلك السياسة في الوقت الذي لا تتوافر فيه الاحتياجات الأساسية للمواطنين بسبب عجز الدولة عن الوفاء بها، نوعاً من الانتحار السياسي.
لذلك كله سوف تستمر الهند، مثلها في ذلك مثل الصين والولايات المتحدة والبرازيل وكندا واستراليا وغيرها من كبار الدول المستهلكة لأنواع الوقود الأحفوري، في إضافة المزيد من الكربون إلى الجو مما يفاقم من ظاهرة التغير المناخي.
يحدث هذا في نفس الوقت الذي يزداد فيه الكوكب احتراراً، وتستمر الأنهار الثلجية في الذوبان ويستمر مستوى مياه المحيطات في الزيادة، وهو ما يشكل في مجمله أخطر تهديد أمني عالمي يواجه كوكب الأرض.