تقع طهران في المنطقة والعالم ومن ثوران دمشق وحلب وإلى القمة الإسلامية بمكة بين أربعة مشاهد: المشهد الأول: مقتدى الصدر مجلوباً إلى طهران قبل ثلاثة أشهر "لإقناعه" بعدم الذهاب إلى أربيل للاجتماع بالبارزاني والسُنّة، والتحالف معهم ضد المالكي لإسقاطه أو ترهيبه بهذا المصير. والحاضرون في الاجتماع الطارئ، بالإضافة إلى الصدر، كُلٌّ من لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني، والمالكي رئيس وزراء العراق المعيَّن عام 2010 بالاشتراك بين الأميركيين وإيران، والجنرال سليماني قائد فيلق القدس الذي أدار باسم طهران السياسات وأعمال القوة والانقسام والاغتيال بالمنطقة العربية منذ 2002 وحتى اليوم. وقد أصرَّ الصدر رغم تهديدات سليماني في الاجتماع على الذهاب إلى أربيل، لكنه ما لبث أن تراجع بعد الاتفاق مع البارزاني، لأنّ سليماني "أقنع" نواب الصدر بأنّ المشْيَ مع الصدر هو مؤامرة ضد الشيعة وإيران! المشهد الثاني: قوات الأمن الداخلي اللبنانية تُطوِّقُ منزل النائب والوزير السابق ميشال سماحة في قريته (الخنشارة) فتقبض عليه وتجلبه للتحقيق متهمةً إياه بالإعداد لتفجيرات واغتيالات ضد المسيحيين اللبنانيين من قوى 14 آذار، يجري اتهام السنّة المتشددين بها لاصطناع فتنةٍ بين السنة والمسيحيين! وميشال سماحة هو أقرب المقرَّبين إلى الأسد منذ عام 1998 وظللنا نشاهده أمام كاميرات الفضائيات في مقدمة الحضور لخطابات "نصر الله" المهدّدة والمتوعدة كلَّ من لا يلتزم بقيادة الأسد، ومحور طهران في الممانعة والمقاومة. المشهد الثالث: سعيد جليلي مسؤول الملف النووي الإيراني، ووزير الخارجية الإيراني صالحي، يتجولان بين لبنان وسوريا وتركيا والعراق في الأيام الماضية، ولهدفين: الإعداد لاجتماعٍ بطهران لدعم النظام السوري، والتنبيه إلى هجومٍ إسرائيليٍّ محتمل ضد طهران (وربما ضد "حزب الله" أيضاً). المشهد الرابع: نتنياهو وإلى جانبه وزير حربه إيهود باراك، يشكو من تردد العسكريين والأمنيين الإسرائيليين في إنجاز حملةٍ على المنشآت النووية الإيرانية، طال انتظارُها بسبب هذا التردد من جهة، وحرص إدارة أوباما على عدم القيام بأيّ شيء يمكن أن يعكّر صفو الأجواء قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر القادم. إنّ الذي يُقلق طهران أشدَّ القلق منذ شهورٍ أمران: الحصار المحكَم من جانب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وتوالي الانهيارات في المحور الذي اصطنعتْهُ خلال العقد الماضي بين العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. فنجاد المغضوب عليه من جانب خامنئي والحرس الثوري، يقول: إنّ المهدي نفسه يقاتل مع الأسد الآن! وخامنئي يطمئن "بشّار" إلى أنّ طهران لن تسمح بانكساره لأنه العمود الفقري لمحور المقاومة. ولاريجاني يقول إنّ الحريق المشتعل بسوريا يمكن أن يحرق إسرائيل. وما تريده طهران تثبيت عزائم بشار والمالكي و"حزب الله"، لذلك فقد جمعت ثلاثين دولةً بدلاً من عشر دول لإخراج "حل سياسي" يقوم على إجراء مفاوضات بين المعارضة والنظام السوري، ربما يعطي "بشار" بعض الوقت- بالإضافة للدعم الإيراني والروسي- أملاً بإرغام عرب الخليج والمعارضة السورية على التفاوُض على بقاء الأسد. أمّا الهدف من وراء ذلك كله، فليس تثبيت المحور الممانع، بل الهدف الحقيقي جمع مَنْ يمكن جمعُهُ لمنْع الهجوم عليها من جانب إسرائيل. والواقع أنه ليس هناك كثيرون يدعمون الهجوم الإسرائيلي المرتقَب على طهران؛ إنما هناك كثيرون- وباستثناء طهران وروسيا- ما عادوا يريدون بقاء الأسد ولو ليومٍ واحد! والطريف أنّ طهران تعتمد في الأمل المعتمل لديها على عاملَين كلاهما مرتبط بالولايات المتحدة: أنّ الأميركيين لا يريدون هجوماً على إيران الآن، كما أنّ الأميركيين ليسوا متحمسين لدعم المعارضة السورية بالسلاح، بل يريدون أن يقترن ذهابُ الأسد بحلٍ سياسي، ولا طريق لذلك -في نظر أميركا وإسرائيل- إلا بإضعاف المعارضة أو كسْرها بحيث تقبل التفاوُض! لقد قضت إيران الشهور الماضية تحاول استيعاب الأزمة الهائلة في النووي ومناطق النفوذ، وبعدة طُرُق: التهديد بقوتها العسكرية الهائلة، والتهديد بإغلاق مضيق هُرمُز، والتهديد بالقتال مباشرةً مع الأسد وليس بواسطة المالكي و"حزب الله" فقط، والتهديد أخيراً بنشر الاضطراب في الخليج وبلدانه. إنما وبخلاف السنوات الماضية؛ فإنّ أحداً ما عاد يخشى طهران ولا تهديداتها. أما الولايات المتحدة، فلأنها قدمت لطهران الكثير في العراق وسوريا ولبنان دون أن يفيد ذلك شيئاً في مجال النووي أو في مناطق النفوذ، فهي ترى أنّ "القبضة الناعمة" التي انتهجها أوباما وأدت إلى حصار طهران حصاراً محكماً، أسوأ من الحرب أو التهديد بها. أمّا العرب فإنهم يئسوا من كثرة ما قدّموا من مبادراتٍ لنظام الملالي ولنظام الأسد. ثم إنّ وضعهم تغيّر بقيام الثورات العربية وعلى رأسها الثورة السورية التي ما حاصرت الأسد وإيران فقط؛ بل حاصرت نظام المالكي، وكشفت "حزب الله"، وجرَّدت طهران وسوريا الأسدية من مظلة الملف الفلسطيني والراية الفلسطينية. لذلك؛ فإنّ خطوات التهديد والاستيعاب معاً ما عادت تفيد. وإذا كان الروسي يبدو مصراً على إبقاء الأسد؛ فإنه لا يملك الإصرار نفسَه على نُصرة الإنتاج النووي الإيراني. ثم إنه يتوجه إلى واشنطن لمساومتها وليس إلى طهران. ومع أنّ المالكي بالعراق يدين لطهران بوجوده في السلطة، لكنْ يكونُ عليه أن يحسب حساباً للتحدي الكردي والتركي له قبل سقوط الأسد وبعده. و"حزب الله" الذي يدين لإيران بوجوده وسلاحه، يكون عليه أيضاً أن يحسب كلَّ حساب للعام المقبل بالداخل اللبناني وفي المنطقة. ويغلب على الحرس الثوري و"حزب الله" معاً الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وإسرائيل، إنما تستدرجان إيران لتبدأ الهجوم من أجل تصفية الحساب معها، لذلك فهم يترددون كثيراً في التحرش بالأميركيين والإسرائيليين! وهكذا فإن طهران في حالة انكشاف كامل. ولن يستطيع اجتماع طهران لنُصرة النظام السوري أو تأجيل هلاكه الوقوف في وجه موجتين اثنتين: مؤتمر القمة الاستثنائي الذي دعا إليه الملك عبد الله بن عبد العزيز بمكة المكرمة، ومؤتمر أصدقاء سوريا بالمغرب في الشهر القادم. ويكون على العرب والمسلمين الحذر من تكتيكات إعادة تفعيل لجنة عنان من طريق الأخضر الإبراهيمي وأشباهه، فكلُّها هُدَنٌ وأَوهامٌ في أخلاد طهران وسليماني، وهي الأَوهامُ ذاتُها التي قادت عنان إلى طهران وموسكو والصين باعتبار وجود الحلّ عندها! لقد كانت هناك حقبةٌ أميركيةٌ بالمنطقة العربية جلبت الخراب على العرب، وأَوحت بتخليد أنظمة الاستبداد الممانعة. واعتقد نجاد أن ذهاب الأميركيين يفتتح حقبةً إيرانيةً تكون أشدَّ هَولاً على العرب والعالم. وهي حقبةٌ ما كانت ولن تكون بفضل الثورة السورية، واليقظة الخليجية، والإدراك الفلسطيني المتأخِّر. وهناك من لا يزال يراهن على" تعقُّل" طهران، لكنّ شيئاً من ذلك لن يكونَ في الأمد المنظور. فلتذهب السطوة الإيرانية بعد السطوة الأميركية إلى غير رجعة، وعلى أيدي العرب والمسلمين الذين كانوا وما يزالون أكبر المتضررين!