الطب في زمن الفراغ الإلكتروني
جاء قرار هيئة معايير الإعلانات والدعاية في بريطانيا بمنع أحد المواقع الإلكترونية الشهيرة، والمتخصصة في الأمور الطبية، من نشر بعض الآراء عن التطعيم الثلاثي (MMR Vaccine)، وضرورة إزالة تلك الآراء من صفحات الموقع، ليلقي الضوء مرة أخرى على العلاقة الشائكة والمعقدة، بين الشبكة العنكبوتية وبين مجمل الرعاية الصحية وبعض الجوانب الخاصة في الخدمات الطبية.
والتطعيم محل هذا القرار النافذ قانونياً، والذي يعرف بالتطعيم الثلاثي نتيجة احتوائه على فيروسات مضعفة لثلاثة أمراض هي الحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية، تم تطويره في نهاية عقد الستينيات، وتعطى الجرعة الأولى منه للأطفال في نهاية السنة الأولى من عمرهم، مع جرعة ثانية منشطة مع بداية دخولهم المدارس في سن الرابعة أو الخامسة، لوقايتهم من الأمراض الثلاثة سابقة الذكر.
وعلى رغم أن أكثر من 500 مليون جرعة قد تم إنتاجها واستخدامها منذ عقد السبعينيات، إلا أن هذا التطعيم أصبح محل جدل علمي واسع النطاق في نهاية عقد التسعينيات، ثم مادة خصبة لأكبر فضيحة طبية خلال السنوات الماضية. ففي عام 1998 نشر طبيب بريطاني دراسة في واحدة من أعرق الدوريات الطبية (The Lancet)، زعم فيها وجود علاقة بين انتشار استخدام التطعيم الثلاثي، وبين التزايد الملاحظ في عدد حالات الإصابة بالتوحد بين الأطفال خلال العقود الأخيرة. وهو ما أدى بالتبعية إلى انخفاض هائل وملحوظ في عدد الأطفال الذين يمنحون التطعيم، نتيجة رفض آبائهم بسبب مخاوفهم من مضاعفات التطعيم، وهو ما نتجت عنه زيادة واضحة في حالات الإصابات بالأمراض الثلاثة السابقة، وما يصاحبها من مضاعفات.
ولكن في الأعوام التالية أعلن المجلس الطبي البريطاني أن هذه المزاعم "غير أمينة"، كما قامت الدورية العلمية التي نشرت الدراسة بسحبها وإلغائها والاعتذار عن نشرها، كما أعلنت دورية بريطانية أخرى على نفس القدر والشهرة أن الدراسة المعنية لا تزيد عن كونها "تزويراً ونصباً"، وفي النهاية أظهرت دراسات متتابعة قام بها عدد من الأطباء في مراكز ومستشفيات مختلفة عدم وجود أية علاقة من قريب أو من بعيد بين التطعيم الثلاثي وبين التوحد.
وعلى رغم كل هذا النفي والتكذيب إلا أن نتائج تلك الدراسة المشؤومة منحت حياة أبدية في الفراغ الإلكتروني، حيث لا زالت العديد من المواقع الإلكترونية تردد المزاعم الكاذبة حول التطعيم الثلاثي. وأفضل مثال على ذلك هو الموقع الإلكتروني الذي كان محل قرار هيئة معايير الدعاية البريطانية، الذي يدعي على صفحاته أن "جنس فيروس الحصبة المستخدم في التطعيم الثلاثي تم اكتشافه في أمعاء ومخ الأطفال المصابين بالتوحد، مما يدعم اعتقاد العديد من آباء الأطفال المصابين بالتوحد، بأن التطعيم الثلاثي كان هو السبب في إصابة أطفالهم بالمرض". وهذه العبارة، ومثيلاتها لا زالت تتداول في الفراغ الإلكتروني، على رغم النفي والتكذيب من عدد من الدوريات الطبية، ومن المراكز العلمية والبحثية حول العالم.
ولا تقتصر العلاقة بين الإنترنت والرعاية الطبية على قضية التطعيمات فقط، بل تمتد إلى جوانب مختلفة أخرى، ربما كان أشهرها هو الانتشار الواسع للمواقع الإلكترونية المتخصصة في بيع الأدوية والعقاقير الطبية، فيما أصبح يعرف بصيدليات الإنترنت (Internet Pharmacy). ومثلها مثل التطورات الطبية التكنولوجية الأخرى حملت فكرة صرف الأدوية والعقاقير الطبية عبر الشبكة العنكبوتية الكثير من المحاذير، وفتحت الباب للعديد من المخاطر التي تصل أحياناً إلى درجة السرقة والغش. وأول تلك المحاذير يتعلق بالمواقع والصيدليات، التي لغرض جذب عدد أكبر من الزبائن وزيادة حجم المبيعات، تصرِف الأدوية دون وصفة طبية. وهذه الممارسات، على رغم أنها في رأي البعض توفر على المريض أتعاب الطبيب ومشقة الزيارة العيادية، إلا أنها تشكل خطراً جسيماً على المرضى من خلال إخراج الطبيب من المعادلة.
وتحتل أيضاً ظاهرة ما يعرف بالانتحار عبر الإنترنت أهمية خاصة من المنظور الصحي والطبي. وهذا النوع من الانتحار يتصف بكونه غالباً انتحاراً جماعياً، يلتقي فيه المنتحرون عبر مواقع خاصة وسرية. وعلى رغم الضجة الإعلامية والتغطية المكثفة لحوادث هذا النوع فإنها، لحسن الحظ، لا تزال نادرة الحدوث بالمقارنة مع أنواع الانتحار الأخرى. ويمكن أيضاً أن تستخدم الإنترنت لأغراض طبية أخرى غير شرعية مثل معرفة جنس الجنين من خلال طقم اختبار يشترى من على بعض المواقع الإلكترونية. وهو ما يطرح احتمال إجهاض جنس الجنين غير المرغوب فيه بوسائل مختلفة، دون وجود استشارة طبية، أو دعم نفسي واجتماعي للأم.
ويخشى البعض من أن زيادة الاعتماد على الإنترنت كمصدر للمعلومات، وللفحوص الطبية، من شأنه أن يضعف التواصل بين المرضى وبين أطبائهم. وهي المخاوف التي تترافق مع قلق أوسع وأشمل من أن فرط استخدام الإنترنت قد يؤدي لإدمانها، بما يحمله ذلك من تبعات نفسية، واجتماعية، وإنتاجية، على المستخدم المفرط أو المدمن. وكل هذه الجوانب، وغيرها، تظهر مدى التداخل الحالي بين الفراغ الإلكتروني وبين الطب الحديث.