"القنابل الموقوتة" في مسلسل "عمر"
لا خلاف على أن مسلسل "عمر"، الذي تبثه بعض القنوات الفضائية العربية منذ بداية شهر رمضان الجاري، ويجرى فيه تجسيد شخصية الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، لأول مرة في تاريخ الدراما العربية، قد أثار قدراً كبيراً من الجدل، بين مؤيّد ومعارض، ولاسيّما بعد أن رفضت بعض المؤسسات الدِّينية الوقور في عالمنا الإسلامي تجسيد شخصيات الصحابة، ودعت جمهور المشاهدين إلى تجنّب متابعة المسلسل، فيما أطلقت مجموعة من الشباب الإماراتيين، حملة "أتعهد بعدم مشاهدة مسلسل عمر"، وهذا كلّه يعكس الوعي بالجوانب السلبية التي يمكن أن تترتب على هذا المسلسل وخطورة الخلافات ومظاهر الجدل التي يثيرها بالنظر إلى أن غالبية علماء الدِّين ومؤسساته في العالم العربي لم يجيزوا هذا التجسيد، وحذّروا من المضي قُدُماً فيه، وهو ما أكّده بشكل خاص "الأزهر الشريف" في مصر، ومفتي عام المملكة العربية السعودية.
الثابت المؤكد وسط هذا الجدل المحموم أن مثل هذه الأعمال الدرامية تثير تساؤلات عدّة، منها: كيف غابت عن علماء الدِّين الذين وافقوا على المسلسل مساحات الخلاف والجدال بل الفتن الدِّينية التي قد تثيرها مثل هذه الأعمال الفنية؟ وهل يتناسب تناول سير شخصيات الصحابة درامياً مع ما يحققه هذا التناول من خسائر معنوية على صعيد الجدل والإشكاليات والشقاق داخل المجتمعات الإسلامية؟
يدرك الكثيرون أن تاريخنا الإسلامي لم يزل موضع جدل وخلاف، وبالتالي فإن أي مقاربة درامية لجوانب معيّنة في هذا التاريخ لا تخلو من مجازفات طائفية وسياسية، لا علاقة لها بالحداثة والتطور ومقتضيات مسايرة عصر الفضائيات وتكنولوجيا المعلومات، خصوصاً أن هناك بعض الممارسات الدرامية الطائفية التي تثير الحساسيات الدِّينية والخلافات بين أصحاب المذهب الدِّيني الواحد، ناهيك عن المذاهب المتعدّدة، في منطقة بات العامل الدِّيني فيها مثل "القنبلة الموقوتة". ما يجدّد الدهشة والاستغراب مرة ثانية من كيفية غياب مثل هذه الأبعاد الشائكة عن ذهن مَنْ أجاز هذا المسلسل؟!
عندما يتعلق الأمر بشخصيات دينية بثقل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، فمن الضروري التعاطي بحذر مع فكرة الرؤية الفنية النقدية، لأن المسألة فيها من الحساسيات ما يفوق بمراحل أي نتائج متوقعة، ناهيك عن أن الظرف التاريخي لا يسمح مطلقاً بسبر أغوار أمور ندرك جميعاً أنها تمتلك مقوّمات الحصانة الدِّينية والعقائدية، ولاسيّما في ظل التنامي الملحوظ في تناول سير الشخصيات الدِّينية درامياً، لدرجة أن هناك تقارير وأنباء تتحدث عن عمل درامي ضخم وشيك يتضمن تجسيداً للرسول (صلى الله عليه وسلم)، والخطورة في ذلك كله أن هناك أحداثاً تاريخية لم تزل موضع جدل، وأن تناولها درامياً يمنح الجهات التمويلية هيمنة على صياغة الأحداث بما قد يخالف الواقع، أو في أقل التقديرات يثير النعرات الطائفية والخلافات المذهبية، بحيث ندخل في مرحلة "التاريخ المتلفز" الذي تسطره الفضائيات.
لقد مرّ قرن تقريباً على فتوى "الأزهر الشريف" عام 1926، بشأن منع تجسيد الأنبياء والصحابة، والفتوى لم تزل موضع تقدير في معظم الأوساط الإسلامية، ومخالفتها لن تغيّـر في الأمر سوى إضافة مزيد من مساحات الجدل والخلاف والارتباك والشقاق. والخطورة أن بعضهم يرى أن تجاوز فتاوى المؤسسات الدِّينية في هذا الشأن بمنزلة هزيمة لهذه المؤسسات، والمسألة لا تتعلق بحروب تنطوي على هزائم وانتصارات، ولكنها تلفت الانتباه إلى خطورة النيل من قدر مؤسسات دينية معتدلة في وقت يفترض أن يسعى فيه الجميع إلى مواجهة خطر التطرف والتشدد الدِّيني، ناهيك عن أخطار أخرى عديدة تتهدد دولنا من بوابة الخلافات المذهبية والعقائدية.
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية