التطور عملية دائمة وهي سنة الله في الأرض منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وتكون نتائجها قابلة للتنبؤ في كثير من الأحيان؛ وقد خلص تشارلز داروين (1809-1882) إلى أن أقوى أنواع المخلوقات وأكثرها ذكاء ليست تلك التي نجت من التغيرات الكبيرة التي حدثت طيلة التاريخ، وإنما هي تلك التي استطاعت أن تتكيف مع الظروف المتغيرة. وعلى رغم رفضنا ورفض العديدين معنا للداروينية الاجتماعية، فإن نظريتها مفيدة في مجال التحليل الاقتصادي؛ فالبقاء في عالم مُعولم هو القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والمتقلبة والشيء نفسه في المجال السياسي، فالبقاء لمن يستطيع أن يتكيف مع التغيرات والتطورات السريعة. وإلا لماذا انهارت الاشتراكية مثلاً؟ لأنها لم تستطع على حد تعبير جيجيجيو كوكودو التكيف مع المرحلة المعاصرة للثورة العلمية والثقافية. وتفاقم هذا الوضع بفعل عدة ظواهر وعمليات أخرى بما فيها حالات العجز الكبيرة في حجم العرض، بالإضافة إلى عوامل ذات طبيعة سياسية أو دولية؛ ثم لماذا انهارت أنظمة مثل نظام القذافي وبن علي ومبارك وغيرها؟ لأنها لم تستطع التكيف مع متطلبات عصر تغير فيه كل شيء وتجاهلت قواعد السياسة وطبائع الأجيال والموجودات وأهملت تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام؛ وهذه المسألة كما يقول ابن خلدون مما "... لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونجلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال؛ وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده. وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسرياليون والنبط وبنو إسرائيل والقبط، وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم؛ ثم جاء من بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب فشملت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلا ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يُباينها أو يباعدها، ثم جاء الإسلام لدولة مصر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثرُه متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف من السلف..". وفي المجال الاقتصادي، لا شك أن النظر إلى الماضي وفهم الآليات المميزة للمسار التاريخي الاقتصادي أمر في غاية الأهمية، وهو يكشف لنا مثلاً أن التنمية الاقتصادية تكون طويلة الأمد إذا اجتمعت خمسة عوامل: 1) التقدم التكنولوجي. 2) سيادة الفكر النقدي والإبداع على الجزم المتشدد في الثقافة والاقتصاد. 3) الوعي الاقتصادي والقدرة على تنظيم عملية توسع الإنتاج والتبادل. 4) الإرادة السياسية من جانب الحكام لتنفيذ إصلاحات مؤسسية ضرورية تحرر طاقة البشر وروح المبادرة للعمل الحر وتوجههم صوب الابتكار. 5) وأخيراً الانفتاح على العلاقات الخارجية مما يتيح ممارسة تبادل أوسع نطاق لا يقتصر على تبادل السلع فحسب بل يشمل تبادل المعرفة والمعلومات والثقافة أيضاً، والاقتصادات القوية هي التي كانت تحافظ على هذه العوامل أو القواعد الخمس وتتكيف ابتداء منها بعد كل أزمة أو ركود لأن الأساس متين والقاعدة مهيأة لمقاومة أي زلزال، وعندما كانت تغيب واحدة من هذه القواعد أو العوامل، كان الاقتصاد ينمو ببطء شديد أو لا ينمو على الإطلاق، ولا يستطيع التكيف هنا أن يكون له مكان. وفي المجال السياسي تعد هذه القواعد الخمس أساسية أيضاً لتنظيم أي مجتمع على أسس صحيحة ومتينة. وأي خرق لواحدة من هذه القواعد الخمس أو تناسٍ لها أو تغاض عنها فإن المجال السياسي يصبح معه عرضة للخطر. وبعض الأنظمة السلطوية لم تفهم هذا الكلام ولم ترد تلقيه وهي محوطة ببطانة سوء لا تسترشد بعبر التاريخ وقواعد التغيير ونظريات التحول، فانهارت عن بكرة أبيها، ولو تكيفت مع تلك القواعد الخمس، وتكيفت مثلاً مع حرب الفيسبوك والتويتر وعوائد هذا الجيل الجديد، لما هربت من بلدانها أو زُج بها في السجون أو قُتلت. والشيء نفسه يقال عن المجال الاقتصادي، فالويل في هذا الزمن لمن لم يحكم في سياسته القواعد الخمس سالفة الذكر، والويل لمن لم يتكيف مع التغيرات السريعة؛ فإذا كان الزمن الفيزيائي يمضي بالطريقة نفسها التي كان يمضي بها منذ ألف أو عشرة آلاف سنة مضت، فإن وقع دقات الساعة الاقتصادية صارت أسرع بكثير مما كانت عليه منذ قرن، كما أن وقع دقات الساعة السياسية صارت أسرع بكثير مما كانت عليه منذ عقد واحد مضى، فالوقت يتبخر بسرعة البرق اقتصادياً وسياسياً، لقد تغير الزمن، لقد تغير كثيراً، فهل من مدكر؟ فالمهم أن تكون لديك نظرية صحيحة وأن تعرف السبب وراء كون الأشياء على النحو الذي تراها عليه؛ ولتأخذ جانب الفن مثلاً وجانب الرسم بالضبط، فنحن لا نصف ما نراه بقدر ما ندركه، فها هو ألبرخت دورر (1471-1528) -أبرز رموز عصر النهضة في ألمانيا- كان بارعاً في رسم كل ما وقعت عليه عيناه حيث إنه رسم حيوان الكركدن أو وحيد القرن من دون أن يراه، إلا أن رسوماته مكنت من إيضاح دروس الحيوان إلى ما بعد بداية الحرب العالمية الثانية، والشيء نفسه يقال عن الكثير من الفنانين الألمان الذين تمتعوا بخلفيات تقنية. وقد أشار ألبرخت بعد زيارة إلى فينيسيا الإيطالية منذ أزيد من خمسة قرون إلى أن الفنانين الإيطاليين كانوا يعرفون السبب الذي من أجله يرسمون. كانت لديهم نظرية فيتكيفون معها وبعد أربعة قرون حذا حذوهم بابلو بيكاسو (1881-1973) إذ قال ذات مرة إنه لم يكن يرسم ما يراه وإنما يرسم ما يعرفه؛ والشاهد أنه حتى في الفن فإن ظاهرة التكيف مطروحة، وإن كانت تختلف عن المجالين الاقتصادي والسياسي كون رؤية الأشياء في الفن انطباعية بينما هي في الاقتصاد والسياسة تقوم على منهج يناسب العلم.