قبل نشوب الحرب العالمية الثانية توجه الفيزيائي فيرنر هايزينبيرج على ظهر باخرة إلى أميركا الشمالية. كان ذلك في شهر أغسطس 1939، وقال الرجل في كتابه "الجزء والكل... حوارات في الفيزياء النووية"، قبل العاصفة يفعل المرء ثلاثا كما هو المسافر في السفينة حين تباغتها العاصفة: شد الحزام، تهيئة أطواق النجاة، ووداع من تحب... لأنها قد تكون اللحظات الأخيرة قبل الغرق. أخذ هايزينبيرج عائلته إلى الجبال. قال: قد تكون النجاة حين تتهدم المدن الألمانية! ثم حمل نفسه لمقابلة صديقه انريكو فيرمي، الإيطالي الذي فر من الفاشية فبنى للأميركيين الفرن (المفاعل النووي) الذي منه يستخرجون ما يشاءون من قنابل ذرية! وفي المقابلة التي يرويها في كتابه، سأله فيرمي: كيف ترى الأمور؟ قال: هي سحب الحرب قادمة لاشك فيها ولا ريب. ثم سأله: وما ظنك بالمنتصر في هذه الحرب، هل سيفوز بها هتلر؟ أجاب هايزينبيرج: لا... وهتلر يعلم ذلك! تعجب فيرمي وسأل: وكيف وصلت إلى هذه القناعة؟ أجاب هايزينبيرج: إنها التكنولوجيا يا عزيزي، الحرب هي الأسلحة والتكتيكات، ولا أعتقد أن ألمانيا لها طاقة تكنولوجية كافية لمواجهة خصومها. تعجب فيرمي وتابع: لكن هل يعرف هتلر هذه الحقيقة اللامعة في ذهنك؟ أجاب هايزينبيرج : نعم، وهتلر يعلم ذلك، لكن متى كانت الحرب عقلانية؟! نعم، متى كانت الحرب عقلانية؟! كيف تكون عقلانية ونحن نرى ما يحدث في سوريا حيث يريد النظام هناك أن يهدمها على رؤوس أهلها مقابل أن يبقى "بشار" في عرش والده الذي وصل إليه ظلماً وزوراً. ذلك الفصل من كتاب هايزينبيرج، وعنوانه "تصرف الأفراد حيال الكارثة"، جذبني أكثر من نظريته حول مبدأ اللايقين أو الاحتمال في حركة الإلكترون، فهو فصل من فلسفة علم النفس الاجتماعي أكثر من الفيزياء النووية ومشاكلها يقيناً أو احتمالا. أتذكر إشارات قرآنية قوية من هذا القبيل، حيث يلفت كتاب الله العزيز نظرنا نحو فهم حركة التاريخ والبشر وهدايتهم، أي السلوك الصحيح أمام خيارات الفناء كما تفرضها مواقف معينة من قبيل السلوك الحالي للنظام السوري. كانت المهمة الرئيسية للقرآن الكريم هداية البشر أكثر من قوانين الفيزياء وتفاعلات الكيمياء وحركة السديم. ففيما يخص النفس الإنسانية نحن أمام أعظم سديم وجودي على الإطلاق. وقتل كل سوري وسفك دمه في سوريا الحالية أعظم من كل شيء. ما تقدمت به يلقي الضوء على ما سيحدث في حلب خلال الأيام القادمة، ونحن هنا أمام الأفكار التالية: الأولى : العقل العلمي مفتوح على كل الاحتمالات بمعنى أن كل شيء قابل أن يحدث على نحو معلق يصعب الجزم فيه واليقين. هذا هو قدر التاريخ من حركة وصراعات البشر. الثانية: قد يسيطر الثوار على المدينة التاريخية فتكون قاصمة الظهر لنظام "البعث"، فتنتقل المعركة من الشمال إلى الجنوب زحفاً باتجاه دمشق. أما في الثالثة فقد يحدث العكس، وهو الأرجح حسب تحليل التكنولوجيا التي أوردناها، من انتصار النظام المدجج بالسلاح، والذي قد يمكّنه من تحويل سوريا إلى غرزني موسعة. هذا إن استطاع؛ فهنا المواجهة مختلفة عن قتال الجيب الشيشاني الصغير.