الانتخابات بين إسرائيل ويهود أميركا
في عام 1841 ألقى الحاخام الأميركي غوستاف بوزنانسكي موعظة في كنيس لليهود في مدينة شارلستون الأميركية بولاية كارولينا الجنوبية قال فيها: "إن هذه البلاد هي فلسطيننا. وإن هذه المدينة هي قدسنا. وإن هذا البيت هو معبدنا".
انقلبت هذه الصورة اليوم رأساً على عقب. فمرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية مت رومني تعهد بأن تكون أول إطلالة خارجية له بعد الانتخابات من القدس. بل إنه درس إمكانية إلقاء خطاب القسَم إذا حالفه الحظ بالنجاح من هناك أيضاً، إلا أن أنصاره تخوفوا من ردّ فعل وطني أميركي سلبي.
أما الرئيس أوباما الذي حصل في الانتخابات الرئاسية الماضية على نسبة عالية من أصوات اليهود الأميركيين، فيبدو أنه فقدَ ثقتهم. لم ينفعه التزلف الذي أبداه أمام منظمة "إيباك" الصهيونية عندما كرّم بيريز ومنحه أعلى وسام أميركي ووصفه بأنه صانع السلام (هو في الحقيقة مؤسس المشروع النووي العسكري الإسرائيلي منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي بمساعدة فرنسية). كما لم ينفعه تراجعه عن المطالبة بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني (خطابه في جامعة القاهرة)، كما لم ينفعه ارتداده على السياسة التي أعلنها بمعارضة بناء مزيد من المستوطنات اليهودية على أراض فلسطينية محتلة، ولا حتى رفضه الاعتراف بحق الفلسطينيين في إعلان دولتهم.
لم يعد المقياس الوطني يقوم على عمق الولاء اليهودي للولايات المتحدة. أصبح المقياس يتمثل في عمق الالتزام الأميركي (رئيساً وكونغرساً وإعلاماً..) بدعم السياسة الإسرائيلية بأبعادها الاحتلالية والاستيطانية والتوسعية. وتشكل الانتخابات الرئاسية ذروة التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإظهار هذا الالتزام ولتجديده، بل وحتى لتوسيع آفاقه.
ويبدو أن هذا التحول بدأ يثير ردود فعل حتى داخل الجماعات اليهودية الأميركية. من مظاهر ذلك قيام حركة تعرف باسم "ج-ستريت" (وهو اسم الشارع الذي يوجد فيه مقرّها بواشنطن)، وتقول هذه الجماعة إن الدفاع عن إسرائيل يتطلب مصارحتها بأخطاء السياسة التي تنتهجها وفي مقدمتها الاحتلال وبناء المستوطنات. ولذلك فإن هذه المنظمة تتناقض في استراتيجيتها مع الاستراتيجية التي تعتمدها منظمة "إيباك" (اللجنة الأميركية اليهودية للعلاقات العامة)، التي ترفض من حيث المبدأ أي نقاش حول القرارات السياسية الإسرائيلية. وهي تحصر دورها في تأييد ودعم هذه القرارات بصرف النظر عن مضمونها أو عن خلفياتها.
وفيما تدعو منظمة "ج- ستريت" إلى اعتماد حل الدولتين (فلسطين وإسرائيل)، تتبنى "إيباك" توجهات حزب "الليكود" في إسرائيل دون مناقشة.
وكذلك، تحذر "ج- ستريت" من نتائج الاحتلال الإسرائيلي ومن الممارسات القمعية الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، على سمعة إسرائيل وتالياً على سمعة اليهود في العالم. وترد "إيباك" على ذلك بأن مصلحة اليهود هي من مصلحة إسرائيل، وأن الإسرائيليين يعرفون كيف يدافعون عن هذه المصلحة بكبح جماح "الإرهاب" الفلسطيني واستئصاله من الأرض المقدسة!
وقد خرج من بين براثن هذه السياسة أحد كبار المدافعين عنها، وهو بيتر بنيارت، الرئيس السابق لتحرير صحيفة "نيوريبابليك" التي تعتبر صوت "إيباك" والمعبّر الأول عن سياسة المتطرفين المؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة.
فقد ألّف بينارت كتاباً جديداً نشر مؤخراً عنوانه "أزمة الصهيونية"، ندد فيه باللاديمقراطية الإسرائيلية، حتى أنه وصف الضفة الغربية بأنها "إسرائيل غير الديمقراطية". ودعا الأميركيين اليهود وغير اليهود إلى مقاطعة المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. كما دعا إلى التمييز بين إسرائيل والاحتلال، مؤكداً على الالتزام بدعم إسرائيل ولكن مع معارضة الاحتلال.
وبرر بينارت هذا التحول في موقفه بالتأكيد في كتابه على أن اليهودي الأميركي لا يمكن أن يكون مع الديمقراطية في الولايات المتحدة وضد الديمقراطية في الضفة الغربية المحتلة.
وكما كان متوقعاً، فقد تعرّض الكاتب إلى التشهير والتجريح من قبل مؤسسة "إيباك" ومن السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل أورن الذي وصفه بالمرتد.
غير أن المهم في كتاب "أزمة الصهيونية" ليس حول ما يقوله بشأن الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، ولكن حول ما يقوله بشأن يهود أميركا والبعد الوطني والأخلاقي لمواقفهم من قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والليبرالية.
وإذا كانت "أزمة الصهيونية" في الولايات المتحدة تبرز من خلال التباين، بل الانقسام الحاد بين جماعتي "إيباك" و"ج-ستريت" اللتين تعتبران نفسيهما حركتين صهيونيتين، فإن هذه الأزمة تبرز أيضاً من خلال ارتفاع صوت يهودي ثالث يقول باللاصهيونية. ويعرّف هذا الصوت عن نفسه باسم "الأكثرية اليهودية الصامتة"، وقد تحدث باسمها ألن براونفيلد رئيس المجلس اليهودي الأميركي. ويقول براونفيلد: "إن الأكثرية اليهودية الأميركية غير ممثلة في أي من إيباك وج- ستريت. بل إن هذه الأكثرية ترفض الفكرة الصهيونية التي تقول بأن اليهود هم جماعة إثنية- عنصرية، وإن موطنهم هو إسرائيل، وإن هؤلاء الذين يعيشون في خارجها هم منفيون بشكل أو بآخر". ويقول براونفيلد أيضاً: "إن الأكثرية من يهود أميركا يؤمنون بأن اليهودية هي ديانة لها قيم عالمية وليست هوية وطنية. وإن اليهود الأميركيين هم أميركيون وطنياً ويهود دينياً، كغيرهم من الأميركيين الكاثوليك والبروتستانت والمسلمين".
ويذهب رئيس المجلس الأميركي اليهودي إلى حد القول الجريء "بأن اليهود الأميركيين يعتقدون أن الصهيونية أفسدت وسيّست اليهودية. ويخرج من ذلك إلى التأكيد على أن منظمة إيباك لا تمثل رأي يهود أميركا، لأن اليهودية تركز على عبادة الله وليس على عبادة كيان سياسي، تحول إلى نوع من الصنمية".
والسؤال هو: لماذا يبقى، مع ذلك، صوت "إيباك" هو الأعلى والأقوى في الولايات المتحدة؟ إن الجواب كما أوضحه براونفيلد هو أن "هذه المنظمة تتلقى التمويل من مجموعة من كبار الأثرياء اليهود وغير اليهود. وأنها مسؤولة أمامهم وليس أمام عامة اليهود الأميركيين". والواقع أن لهؤلاء الأثرياء الممولين حسابات استثمارية ومصالح متداخلة مع حسابات سياسية ومصالح شخصية لمرشحي الرئاسة والكونجرس في الولايات المتحدة.. الأمر الذي يحول هذه العلاقة إلى نوع من "المافيا السياسية". وتبرز خطورة هذه المافيا من خلال تمويل حملات مرشحي الرئاسة، وتغطية نشاطاتهم إعلامياً، والترويج لهم ولسياساتهم.
من هنا فإن الأصوات اليهودية الجريئة التي ارتفعت في الولايات المتحدة ضد احتكار منظمة "إيباك" لإرادة اليهودي الأميركي وحتى لانتمائه الديني والوطني، تؤسس لتحول جديد يحتاج إلى عقول عربية وإسلامية أميركية متفتحة تتلقفه بأيدٍ ممدودة.