التعددية الدولية... والتوازن المنشود
يطرح المفكر المصري أنور عبدالملك الذي رحل عن دنيانا مؤخراً ثلاث رؤى لشكل العالم، الأولى تتمثل في هيمنة المركز الواحد، والثانية هي صراع "الحضارتين الأيديولوجيتين"، والثالثة، تقوم على التعددية. وبالطبع فإن صراع الأيديولوجيتين، الاشتراكية والرأسمالية، لم يعد موجوداً الآن، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وخروج دول أوروبا الشرقية من عباءة الشيوعية، لكن الذي تكرس هو هيمنة المركز الواحد، الذي ينشده من يريدون عالماً أكثر توازناً وعدلاً هو التعددية. وتبدو الرؤية الأولى ذات طابع استعماري، في نظر عبدالملك، إذ أنه يرى أن "تغيير العالم في نظر دعاة الهيمنة الأميركية لا يكمن في السعي إلى إقامة نظام عالمي أكثر عدلاً ومساواة، وأنظمة من الإنتاج وتوزيع المنتجات والمحاصيل، أكثر إنسانية وأكثر حرصاً على سعادة الجماهير الواسعة في مختلف القارات.. ويعني تغيير العالم من وجهة النظر هذه إلغاء النظام العالمي غير الواقعي.. الذي يفترض أن مجموعة الدول الوطنية، وهي الوحدات التي تنتظم فيها حياة المجتمعات البشرية، تشكل مجموعة من الوحدات المتساوية من حيث القانون الدولي، أي من حيث الحقوق والواجبات حسب ميثاق الأمم المتحدة".
وبدلاً من هيمنة المركز الواحد يتتبع عبدالملك السير نحو تعدد الأقطاب في النظام الدولي، بدءاً من خروج يوغوسلافيا عن القيادة السوفييتية عام 1948، ثم الصِّدام بين الصين والاتحاد السوفييتي، ونشوء فكرة تعدد المراكز داخل الحزب الشيوعي الإيطالي، ثم خصوصية الشيوعية في أوروبا الشرقية، وبعدها ظهور حركات التحرر في العالم الثالث التي رفعت شعار التنمية المستقلة في الاقتصاد وعدم الانحياز في السياسة. وفي الوقت الراهن تظهر بوادر التعددية مستقبلاً في ظل نظام هيمنة القطب الواحد، حيث الاتحاد الأوروبي واليابان والصين، كقوى سياسية واقتصادية وعسكرية تتعايش مع الولايات المتحدة.
ومن أجل عالم أكثر عدلاً وتوازناً يدعو عبدالملك إلى فرض تعددية التجارب والطرق والأنماط فرضاً، ويؤكد أنه بهذه المسلك يمكن تغيير العالم، "إذ إن التعددية في الأنظمة الاقتصادية الداخلية، وفي السياسات الخارجية، هي وحدها التي تستطيع التأثير في دائرة هيمنة المركز الواحد". وتحقق هذه التعددية يتطلب، في رأيه، صياغة مشروع حضاري جديد، "يتكون في واقع الأمر من عدة مشروعات حضارية، وتقدمه الدوائر الحضارية والجيو- ثقافية التكوينية الكبيرة، ابتداء من تفاعل وتواكب مختلف المدارس التكوينية الأصلية للفكر والعمل بها، ويقدم رؤى جديدة، تتشابك في رؤية عالمية جديدة، تعيد إلى الإنسانية ليس الأمل الأكيد في استمرارها فحسب وإنما تعيد إليها أنماطاً جديدة خلاقة إيجابية من التعامل الإنساني، والحياة الهادفة، والتقدم الروحي المتزن".
وتتقارب رؤية عبدالملك، إلى حد كبير، في الجانب المتعلق بتلمس مستقبل العالم العربي في ظل تطور النظام الدولي ووضع الأيديولوجيا عالمياً من تصورات سمير أمين حول هاتين المسألتين، فأمين، الذي يغلب على رؤيته الطابع الاقتصادي، يرى أن النظام الدولي اختلفت سماته من مرحلة إلى أخرى، ويحقبه على ثلاث مراحل، الأولى من عصر الثورة الصناعية حتى الحرب العالمية الأولى، حيث اتسم القرن التاسع عشر بنموذج توحيد العالم على أساس استعماري، وهو الشكل الذي رفضته كل من الحركة العمالية والاشتراكية وحركة التحرر الوطني للمستعمرات.
والثانية من قيام الثورة البلشفية 1917 إلى عصر جورباتشوف وديج هيسياوبنج، حيث اتسم القرن العشرين بانفجار هذا التوحد العالمي حتى صار التعايش بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي ذا طابع صراعي. والثالثة ربما عادت بنا إلى توحيد عالمي مرة أخرى، حيث تندفع الرأسمالية إلى موجة جديدة من التوسع والتعمق والازدهار. لكنه و"على الرغم من السيادة الحالية لخطاب الأيديولوجيا الليبرالية عالمياً إلا أن سمات هيكل العالمية المستقبلية لا تزال محوطة بالضباب بسبب تفاعل عوامل ثلاثة حديثة، وهي الثورة التكنولوجية والعالمية المالية وتطور القدرة التنافسية المقارنة للولايات المتحدة واليابان وأوروبا. فهناك احتمالات عديدة لتركيب هذه العوامل بأشكال مختلفة، تضاف إلى ذلك تأثيرات العوامل غير الاقتصادية الحديثة هي الأخرى مثل مشاكل البيئة وتطور نوعية الأسلحة، وتكثيف شبكة الإعلام. أما أزمة الاشتراكية القائمة بالفعل التي انفجرت أيضاً بشكل فجائي غير متوقع، فهي عامل إضافي هام يزيد من تعقد المعضلة".
ويتطابق عبدالملك وأمين في انتقادهما للتمركز الأوروبي، والمناداة بإعادة بناء العالم المعاصرعلى أساس مبدأ الاعتراف بالتعددية، وفي هذا الشأن يرى أمين أن التعددية لا تعني وجود أقطاب خمسة تحكم العالم، هي الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا الاتحادية واليابان، لأن هذا الشكل، في نظره، قطبية ذات مغزى سياسي بحت تحل محل القطبية العسكرية التي كانت سائدة أيام الاتحاد السوفييتي، بل هي "بديل أوسع نطاقاً يعطي لبلدان ومناطق العالم الثالث مكاناً يسمح لها بالتحرك والتقدم، وذلك عن طريق إخضاع هذه الدول علاقاتها الخارجية لاحتياجات تنميتها الداخلية، وليس العكس، أي التكيف، بمعنى تكيف التنمية الداخلية مع ما تسمح به الظروف الدولية السائدة". وهنا تبدو الحاجة إلى تحالفات اجتماعية على أساس شعبي ووطني، سواء كان قطبياً أم قومياً أم إقليمياً، بما يقود إلى هذه التعددية، التي هي في تصوره "الأساس الوحيد الذي يمكن عليه بناء أممية شعبية، ينعكس فيها الطابع العالمي الضروري لمنظومة القيم الملائمة لاحتياجات العصر". وبالطبع فإن رؤيتي عبدالملك وأمين، حول ضرورة أن يكون هناك دور للعالم الثالث، ورفضهما للتمركز الأوروبي، تتفقان مع ما ذهب إليه حسن حنفي في محاولة الانتصار للعالمثالثية، ونقد الفلسفة والفكر الأوروبيين، بما يزيح أي تعامل "مقدس" أوعلى الأقل مؤسس على الانبهار والدونية، معهما.