عندما شدّ العدّاء الجزائري توفيق مخلوفي صدر قميصه، وصوّب بذراعه نحو السماء، توقعتُ مصيبة أخرى. حدث ذلك لحظات قبيل انطلاقه في سباق 1500 متر، وقبلها بيوم كان قد توقف عن الركض في بداية سباق 800 متر، وأوقفه الاتحاد الأولمبي عن المشاركة في السباقات، وتراجع الاتحاد عن قراره بعد صدور تقرير طبي أكد أن توقف مخلوفي عن الركض سببه تمزق مشدات ركبته اليسرى. وينبغي أن يكون العداء المصاب بركبته من الجزائر، بلد المليون شهيد، كي ينال الميدالية الذهبية بعد ساعات من السماح له مجدداً بالركض. وعندما شد مخلوفي اسم الجزائر المكتوب على صدر قميصه وصوّبه نحو السماء انطلق واثِقَ الركض مجتازاً المتسابقين في 300 متر الأخيرة وسط صيحات الدهشة والإعجاب. كيف حدث ذلك، وماذا عن ركبته المصابة؟ أجاب مخلوفي مرحاً: "كل من يفوز في السباق ينسى جروحه وآلامه". وتركيز الفضائيات على ما أسمته "بي بي سي" العربية "إنجازات العرب الهزيلة في الأولمبياد" غير صحيح، وظالم. فأيُّ إنجازات نتوقعها عندما يدمّر الغزو الأجنبي الهياكل الارتكازية للرياضة في فلسطين، والعراق، وليبيا، وأمام أعين العالم يحوّل الصراع المثلث؛ الداخلي والإقليمي والدولي، سوريا الساحرة الجمال والرشاقة إلى أرض خراب؟ وتظل إنجازات العرب في كل حال أفضل من الهند التي لم تُحتل منذ استقلالها منتصف القرن الماضي، ويعادل حجمها السكاني أكثر من ثلاثة أضعاف العرب مجتمعين، ولم تحصل سوى على خمس ميداليات؛ اثنتان فضية وثلاث برونزية، وفشلت حتى في الفوز بما يعتبر لعبتها القومية (الهوكي). بينما حصدت البلدان العربية 11 ميدالية، بينها ذهبيتان؛ الجزائر في الركض، وتونس في السباحة، واثنتان فضيتان فازت بهما مصر في السباحة. وترتيب أول ثلاث دول عربية في جدول ميداليات الأولمبياد؛ تونس (45) والجزائر (50) ومصر (58) وتتقدم بذلك على فنلندا، وبلجيكا وكلتاهما في المرتبة 60. وتتضاعف حصيلة العرب من الميداليات الذهبية عندما نحسب ذهبيتين فاز بهما العدّاء "مو فرح"، وهو مولود في أسرة من ثمانية أطفال في مقديشو، عاصمة الصومال، العضو في جامعة الدول العربية، وهاجر إلى بريطانيا عندما كان في الثامنة. أمه وأخوه فيصل اللذان يعيشان شمال الصومال قطعا مسافة كيلومترين إلى أقرب قرية فيها كهرباء وتلفزيون كي يرونه. وقال فيصل لمراسلي الصحف: "انفجرتُ كالقنبلة عندما فاز أخي وركضتُ في الشارع وأنا أصرخ ". واسم "مو" الحقيقي هو محمد فرح، ويُدعى الآن في بريطانيا "صاحب البطولتين"، ويصعب معرفة مشاعر آلاف البريطانيين، الذين هتفوا باسمه عندما ركع مباشرة على أرض الملعب بعد فوزه بالذهبية الثانية وصلّى ركعتين. ولا تفسر تصريحات "مو" المتواضعة سبب هزال الأداء العربي فحسب، بل سبب تفوق أداء بلدان النخبة الأولمبية. يذكر "مو" أن هتاف 80 ألف متفرج باسمه في ملعب الأولمبياد شدّ عزيمته على الانتصار، وأهّلته عناية فريق طبي ممتاز بحالة بدنية ومعنوية، ودورة تدريب طويلة على أيدي أقدر المدربين العالميين في الولايات المتحدة. والتفوق الرياضي لا تصنعه المواهب الخارقة فحسب، بل جداول علمية دقيقة لإعداد الرياضيين، وإشراكهم في سلسلة سباقات محلية وإقليمية ودولية. ويفسر هذا التوزيع الطبقي العالمي للميداليات. فأبناء البلدان الإفريقية الفقيرة الذين يقضون العمر في الركض هرباً من المجاعة حصدوا ميداليات الركض الذي لا يحتاج إلى تجهيزات تقنية عالية. وعند حساب عدد الميداليات بالنسبة للسكان، تنتقل الأولوية من الولايات المتحدة إلى جزيرة غرينادا الفقيرة التي نال عدّاؤها الذهبية في ركض 400 متر وعدد سكانها 110 آلاف نسمة فقط. وفي أولمبياد يعقده بلد من النخبة الأولمبية ينعكس القول المأثور "العقل السليم في الجسم السليم" فيصبح "الجسم السليم في العقل السليم". قرارات غبية، كالإجراءات الأمنية التي كلفت ملايين الدولارات حوّلت صورة أولمبياد لندن من احتفال جماهيري جميل ملون بقوس قُزح أجناس اللاعبين الأفذاذ إلى قاعدة عسكرية تحرسها مدافع مضادة للجو، وطائرات بدون طيار. وارتفاع أسعار التذاكر حرم الجمهور الكبير من المشاركة في ما اعتُبر أكبر استعراض في العالم، واضطرت إدارة الأولمبياد إلى الاستعانة بالجنود لملء المقاعد الخالية، التي كانت قد اشترتها شركات داعمة للأولمبياد، فيما احتفل عشرات الآلاف بالأولمبياد خارج أسواره. وبلغ العقل غير السليم لملكية حقوق البث التلفزيوني حدّ تقييد التغطية بشروط قاسية فُرضت حتى على شبكة "بي بي سي" شبه الرسمية. وأوجع تحيز محكمي سباق استعراض الخيول الساحر قلوب ملايين مشاهدي المباريات حول العالم. وتمنيتُ لو لم أكن شاهد عيان على قُبح قرار المحكمين منح الميدالية الذهبية للفارسة البريطانية شارلوت دوجاردين التي ارتكبت أخطاء عدة لاحظها فورياً المعلقون الرياضيون. وأساء حجب الذهبية عن الفارسة الهولندية أدَلِنده كورنيلسن، التي أرقصت فرسها القلوب، إلى سمعة الأولمبياد... وفضائح كهذه تلتهب في عصر الإنترنت كالنار في الهشيم. جمهور المشاهدين الهولنديين في ملعب غرينيتش ببريطانيا، حيث المباراة رفعوا رايات برتقالية احتجاجاً على قرار هيئة التحكيم، واتهموها باللصوصية، وعندما عُقد المؤتمر الصحفي كانت شبكات الإنترنت تضج بآلاف رسائل الاحتجاج، التي قابلها رئيس هيئة التحكيم ببرود إنجليزي تقليدي أقبح من الذنب. وابحث عن المال في ميادين سباقات الخيل. فَضَحت ذلك شهادة الكاتب البريطاني ستيفن موس، عضو قسم التاريخ الطبيعي في "بي بي سي" الذي أشار في تقرير لـ"الجارديان" إلى صفقات بيع وشراء الفرس العربية وراء الموضوع. وتتوزع ألعاب أولمبياد لندن، وعددها 303، على رياضات عدة في العوم والسباحة وكرة القدم وحتى الرماية والمبارزة والمصارعة. وبعض الألعاب اختفى، فيما اعترف "الاتحاد الأولمبي الدولي" بألعاب جديدة. السباقات المائية على سبيل المثال عددها 46، منها 34 للسباحة، و8 للغوص، واثنتان للسباحة المتزامنة، وهو رقص باليه في الماء فازت بميداليته الذهبية السّباحات الروسيات. وعدد أنواع ألعاب الدراجات الهوائية أربع، وكل من يستخدم الدراجة للرياضة والتنزه والتسوق يستطيع الادعاء مثلي بأنه جربها جميعاً، وهي تسلق المرتفعات، وتُسمى جبلية، والسياقة الدائرية داخل الملاعب المغلقة، والسياقة المعتادة على الطريق، وأحدثها سباق الدراجات "بي إم إكس" التي تتكون من الحروف الأولى بالإنجليزية للعبارة المدغمة "دراجة هوائية وآلية"، وفيها ينطُّ اللاعب فوق الأحجار والنفايات والتقاطعات والممرات الملتوية الصاعدة النازلة. وكل الأعمار صالحة للرياضة، وأجملها التي نمارسها. فعندما بلغتُ الأربعين نصحني الطبيب بأن الشخص في الأربعين لا ينبغي أن يسوق الدراجات، وأنتظرُ بفارغ الصبر بلوغ الخمسين حتى أسوق دراجتي!