جمهورية فوق الشبهات!
يكاد علماء الاقتصاد والسياسة يجمعون على أن لظاهرة الفساد آثاراً مدمرة على أي نظام سياسي أو نمط إنتاجي، كائناً ما كان، وذلك لأنها تؤدي إلى فقدان الثقة في الأول، واختلال آليات عمل الثاني. ولذا وضعت القوانين الجنائية في معظم دول العالم عقوبات مغلظة لردع كافة أشكال الفساد المالي، والإداري، وبالأحرى السياسي. ولمقاربة إشكالية الفساد وإسقاطاتها الاقتصادية والسياسية يأتي كتاب "روح الفساد" للقاضيين والمؤلفين الفرنسيين "أريك آلت" و"إيرن لوك" الذي صدر عن كاتبين متخصصين في هذا المجال، حيث شغل القاضي "أريك آلت" مناصب قضائية واستشارية رقابية بارزة، كما أنه متخصص في الرقابة المالية تحديداً، في حين تشغل القاضية "إيرن لوك" الآن منصب مستشارة محكمة باريس الابتدائية، كما عملت من قبل في مهام مختلفة رقابية وقضائية إضافة إلى رئاستها للقسم القانوني بسلطة ضمان حرية المنافسة الفرنسية.
ويصب المؤلفان بداية جام نقدهما على حال بلادهما فرنسا مؤكدين أن وجود ترسانة قوانين جنائية صارمة لا يكفي وحده لردع ممارسات الفساد، بل إن وجود تلك القوانين دون وجود مسؤولين قادرين على تطبيقها، لفظاً وروحاً، يمكن أن تكون له آثار عكسية محفزة للفساد، بتشريعه أو تحويله إلى أمر واقع، لا يحرك أحد حياله ساكنا. وليس المسؤولون الجادون الصارمون هم وحدهم من يستطيع فرض تطبيق قوانين النزاهة ومكافحة الفساد، بل إن المواطن العادي مطالب هو أيضاً بأن يراقب وينبّه على أية ممارسات يشتبه في دخولها تحت طائلة الفساد، ومثل هذه التعبئة الشعبية ضد الفساد هي ما يروم المؤلفان تحفيزه وتشجيعه، تحت مسمى "المقاومة" الشعبية، لكافة أشكال الإضرار بالمصلحة العامة، في الجوانب المالية والاقتصادية بصفة خاصة. وهي مقاومة يريدان أن تستقطب اهتمام شرائح عريضة من الفرنسيين، لأن الظرف الفرنسي الذي صدر فيه الكتاب ذو سياق استثنائي جداً، كما نبهت إلى ذلك صحيفة لوموند، التي قالت في عرضها له إنه يأتي في وقته تماماً، وإنه يضع الإصبع على موقع الجرح بالضبط، في وقت يعاد فيه فتح ملفات "قضية كراتشي" التي يشتبه في أن يكون قد وقع فيها فساد مالي كبير جداً، على صلة بعملية بيع غواصات إلى باكستان، وخاصة أن الرئيس السابق ساركوزي متهم بالضلوع في هذه القضية، المثيرة للجدل، التي ارتبطت أيضاً في الأذهان مع احتجاجات عائلات ضحايا تفجير كراتشي ذي الصلة، الذي قتل فيه العديد من البحارة الفرنسيين. كما يزيد من قيمة توقيت صدور الكتاب أيضاً تعهد فرانسوا هولاند بتعديل الوضع الجنائي لرئيس الجمهورية.
ومع أن أول ما قد يتبادر إلى الذهن بشأن فرنسا، كدولة ديمقراطية عريقة، هو انعدام ممارسات الفساد، إلا أن ما تقوله استطلاعات الرأي وتصنيفات منظمة الشفافية الدولية شيء آخر، كما يبرز المؤلفان ذلك، مذكرين بأن استطلاعاً شهيراً للرأي العام أجري في سنة 2011 أظهر أن 72 في المئة من الفرنسيين يعتقدون أن قادتهم السياسيين فاسدون، بكل تأكيد. أما تصنيفات منظمة الشفافية الدولية فتضع فرنسا في الترتيب 25 ضمن الأقل فساداً بين دول العالم الـ 182 التي يشملها تصنيف المنظمة، (هذا في حين تأتي فرنسا في الترتيب 14 على المستوى الأوروبي).
ويلاحظ المؤلفان أن بلادهما قد عاشت خلال السنوات الأخيرة على وقع سلسلة من الفضائح المالية، والتهم المتعلقة بعدم سلامة الذمة، التي طالت مستويات متعددة من السياسيين ابتداء من رئيس الجمهورية فما دون، ولعل الإشارة الأقوى هنا هي إلى فضيحة "وورث- بيتانكور" المتهم فيها ساركوزي، والتي لا يستبعد أن يعاد فتح التحقيقات فيها في أية لحظة حال ظهور دواعي ذلك في المستقبل، نظراً لحجم السجال السياسي والحزبي الذي أثارته على هامش حملة الرئاسيات الماضية.
ونظراً إلى جسامة وخطورة مشكلة الفساد يذهب الكاتبان إلى أنها باتت اسماً آخر لكافة مشاكل المال والأعمال، كما أنشأت مع مرور الوقت بنية تحتية وقنوات صديقة للفساد، ممثلة في بعض جماعات ضغط القطاع المالي، وكافة مافيات إعلاء المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
ويمضي القاضيان "أريك آلت" و"إيرن لوك" في ثنايا كتابهما لكشف بعض ثغرات المنظومة القضائية والقانونية التي تتسرب من خلالها روح الفساد، وثقافة الأمان من العقاب، مبرزين في هذا المقام حزمة من الحلول والتدابير والإصلاحات السياسية والقانونية اللازمة لتلافي كل ذلك، ولضمان استعادة قيم جمهورية فوق الشبهات، وغير قابلة للاتهام في أعز ما تملك: ذمتها المالية، ونزاهة وشفافية تسيير مواردها العامة.
حسن ولد المختار
الكتاب: روح الفساد
المؤلف: أريك آلت وإيرن لوك
الناشر: لوبور
تاريخ النشر: 2012