إفريقيا وأوروبا... عبء التاريخ ووعود المستقبل
لم تعد إفريقيا تلك القارة المهملة التي لا يكاد أحد يلتفت إليها في العالم ولا يسمع لها صوتاً في الساحة الدولية، بل باتت اليوم، وفقاً لتقديرات البنك وصندوق النقد الدوليين، إحدى القارات الواعدة اقتصادياً لما تشهده بعض دولها من نمو اقتصادي فاق أحياناً المعدل العالمي المتباطئ. فدول مثل جنوب إفريقيا التي تمثل القوة الصناعية الأولى في القارة، ودول إقليمية أخرى مثل نيجيريا وغيرها، أصبحت مثار إعجاب، المراقبين ليترافق ذلك مع موجة الإصلاحات السياسية التي قطعت في جزء كبير من القارة مع الممارسات الاستبدادية السابقة، وفتحت نافذةً على الديمقراطية، كما تدل التجرية السنغالية والليبيرية على سبيل المثال. ومن المحاولات الرامية إلى سبر أغوار القارة الإفريقية في علاقتها مع المستعمر الأوروبي السابق، الكتاب الذي نعرضه هنا لمجموعة من الباحثين بقيادة أديكيي أديباجو وكاي ويتمان، وعنوانه "الاتحاد الأوروبي وإفريقيا... من إفريقيا الأوروبية إلى أوروبا الإفريقية"، والذي يحاول من خلال مؤلفيه تسليط الضوء على العلاقة التاريخية بين القارتين المتجاورتين، في أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية، مستعرضين التحولات الكبرى التي شهدتها تلك العلاقة وتأثيراتها التعاون المشترك بينها ونظرة كل طرف إلى الآخر.
لقد تميزت العلاقة التاريخية بين القارتين الأوروبية والإفريقية بنوع من الالتباس، فبين الخوف التاريخي المتجذر لدى الأوروبي من الآخر، وبخاصة ذلك القادم من الضفة الجنوبية، سواء أكان المغاربي (العربي المسلم)، وبين العلاقة المتوترة أيضاً مع إفريقيا جنوب الصحراء بما شكلته تاريخياً من مصدر لتوريد العبيد إلى أوروبا ومنها إلى أميركا، ثم النظرة الاستعلائية التي صورت الزنجي كمتوحش يحتاج إلى الحضارة الأوروبية... هذه الرواسب التاريخية، يوضح الكتاب، ما زالت مستمرة في الوعي الجماعي للأوروبيين كما الأفارقة على حد سواء.
لكن العلاقة الثقافية القائمة على الريبة والإقصاء سرعان ما تفسح المجال لتسلط من نوع آخر مع التحولات الكبرى التي شهدها القارة الأوروبية، فما إن دخلت هذه الأخيرة ثورتها الصناعية في القرن التاسع عشر حتى ظهرت الحاجة الملحة لتصريف المنتجات الصناعية الجديدة من جهة والحصول على المواد الأولية من جهة أخرى، ولم تكن أمام أوروبا في حينه سوى القارة الإفريقية الأقرب مسافة والأغنى موارد، لتنتقل العلاقة إلى نوع من الاستغلال الصريح لثروات القارة الإفريقية ومقدراتها تُوج بالاستعمار الذي اجتاح القارة منذ نهاية القرن التاسع العشر ولم يرحل عنها إلا في ستينيات القرن الماضي.
لكن ما إن بدأت القارة تتحرر من الاستعمار مع بداية الستينيات ونهاية الخمسينيات حتى دخلت العلاقة مرحلة أخرى حاولت فيها حركات التحرر التأسيس لعلاقة جديدة قائمة على الندية مستفيدة في ذلك من الاستقطاب العالمي والحرب الباردة. لكن الكتاب يرون أن القارة لم تدخل فعلاً مرحلة الندية إلا مع الألفية الثالثة التي تكشفت فيها قدرات إفريقيا الاقتصادية. فقد فشلت أغلب حركات التحرر في إقامة مشروع سياسي ناجح يستند إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أن النفوذ الأوروبي القديم ظل قائماً، كما يتضح في عدد من الحالات، سواء تعلق الأمر بالتدخل الفرنسي في ساحل العاج، أو دعوات التدخل الحالية في الأزمة المالية، ليبقى التحول الأكبر في مسار العلاقات الأوروبية الإفريقية نشوء جيل جديد من رجال الأعمال الأفارقة ورجال الدولة المصرين على عدم نقل خيرات إفريقيا خارجها والاستفادة ما أمكن من رؤوس الأموال الأجنبية.
وفي ذلك السياق يشير الكتاب إلى اللعبة التي انخرطت فيها إفريقيا، عندما فتحت أبوابها أمام القادم الجديد متمثلاً في الصين التي راحت تزاحم أوروبا وأميركا في معاقلها التقليدية لتصبح أكبر مستثمر خارجي في القارة، ولتتحرر إفريقيا أخيراً من الهيمنة الاقتصادية الأوروبية بعدما نوعت شركاءها الدوليين ووسعت هامش مناورتها.
بيد أن هذه المكاسب التي حققتها القارة على مدى السنوات القليلة الماضية لا تحجب المشاكل الأخرى متمثلة في الصراعات والحروب التقليدية، مع صعود حركات التمرد وتصاعد أعمال العنف، بالإضافة إلى النزاعات الدينية والعرقية التي تعيق تقدم بعض بلدان القارة وتهدر ثرواتها الطبيعية.
زهير الكساب
-------
الكتاب: الاتحاد الأوروبي وإفريقيا... من إفريقيا الأوروبية إلى أوروبا الإفريقية
المؤلفان: أديكيي أديباجو وكاي ويتمان
الناشر: هيرست أند كو
تاريخ النشر: 2012