لا ينتظر قارئ هذا المقال نشر إحصائية بأسماء الذين أثروا واكتنزوا الذهب والفضة، بعد التاسع من أبريل 2003، والخزائن تقول: أما مِن مزيد! ولا ينتظر فواتير أو قوائم بمقادير ما أدّخر في البنوك، وما صار ملكاً غير منقول بعواصم أوروبا، وعواصم الاستثمار، فتلك مهمة معاهد ومكاتب. سمعت أن جماعةً مِن أهل الغيرة على وطننا المستلب تكفّلت بهذه المهمة، وهم مِن ذوي الاختصاص، يجمعونها ملفات ويحفظوها بمعرفتهم، كي لا يتنصل فاسد أو قاتل أو مخرب في هذا البلد مِن المسؤولية. ومثلما قيل: "لو خليت قُلبت"، لا يُظن أن مقدرات العراق تبقى سائبة، أرواح تزهق وثروات تختفي، فهناك مَن يرصد ويعد ويحصي. ليس في ما أقوله تهديد وإنما خبر من الأخبار، أنقله مسروراً بالبقية الباقية مِن شباب العِراق، التي قصدها محمد باقر الشبيبي (ت 1960): "ليس السكوت مِن الخنوع وإنما/هذا السُّكوت تجمع وتحشد" (عز الدين، الشعر العراقي الحديث). فأزمة عشر سنوات أولدت مَن يحاول المنافحة على قدر عزمه ضد الثراء الفاحش. فهو يسأل نفسه: مِن أين حلت هذه القصور وتلك الضياع وهذا الرَّفاه، على مَن كان يعيش على الإعانة الاجتماعية ببلاد أوروبا؟! ومِن أين نزل كلُّ هذا النَّعيم على مَن كان يعيش على راتب الحزب الضئيل، أو ما يحصله مِن تزوير الوثائق ببلدان المهاجر! وما عدد البنوك والشركات التي أخذ يمتلكها أصحاب السَّوابق مِن الأغنياء، ورؤساء الأحزاب، وكيف يتم ابتزاز الثروات؟! كي لا يظن النَّاهبون للمال العام أنهم سيكونون أحراراً بلا مساءلة، وها هو العالم صار قرية والدول متضامنة قانونياً. تجربة لابد أن تؤخذ بنظر الاعتبار، وهي أنه بعد انقلاب 1941، أو ما عُرف بحركة رشيد عالي الكيلاني (ت 1965)، ومع احتلال بغداد مِن قبل الجيش البريطاني في تلك السَّنة، لوحظ أن الرَّشوة أخذت تتفاقم، والفساد بالمال العام يتصاعد، وأُخذ يُشار به إلى الأجهزة الحكومية، ففي عام 1945 تشكلت لجنة كتبت لائحة تحت عنوان "قانون الإثراء غير المشروع"، وأحيلت هذه اللائحة إلى لجنتين: قانونية ومالية. لكن أصحاب المحسوبية والمنسوبية جعلوا هذا القانون يطول الموظفين ماعدا الوزراء ورئيس الوزراء، على أساس أن الوزراء ورئيس الوزراء لا يُتهمون إلا مِن قِبل مجلس النواب، بمعنى أنه صار هناك مانع قانوني ومعصومية ضد تنفيذ اللائحة. المشكلة الأخرى التي اعترضت تنفيذ هذه اللائحة أن يكون تعيين لجنة التحقيق بيد مجلس الوزراء. فحسب رأي وزير المالية الأسبق عبدالكريم الأُزري (ت 2010)، وهو الذي يروي قصة هذه اللائحة، أن مجلس الوزراء مجلس سياسي، وقد تشمل بعض أعضائه محاربة الثراء الفاحش! ويأتي الأزري، في مناقشاته آنذاك وكان عضواً في اللجنة المذكورة، بمثال في محاربة الفساد المالي. وملخصها أن الرئيس الأميركي روزفلت كان حاكماً لولاية نيويورك، فأخذ يفتش عن قضاة أمناء لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فاهتدى لهم، ليرأسهم القاضي سيبري، وصدر أمر تعيينهم على أثر فضيحة مالية كبرى هزت الولاية، فقام روزفلت خطيباً فيهم: "إن موظفي مدينة نيويورك ومستقبلهم بين أيديكم فاحكموا عليهم بوحي مِن ضمائركم، وبموجب القانون" (الأزري، تاريخ في ذكريات العراق). وبالفعل تم اكتشاف الفساد والرَّشوة واستغلال النُّفوذ والوظيفة الحكومية. لكن لائحة الإثراء غير المشروع العراقية ظلت تتداول في البرلمان، والحال مثلما هو اليوم، واختلف حول خضوع الوزراء بمن فيهم رئيس الوزراء للمساءلة، فكان الإشكال أن الدستور لا يسمح، وظلت القضية عالقة، حتى ثورة 14 يوليو 1958. لم يكن ذلك الثراء يعادل شيئاً مِن ثراء هذه الأيام، لكن الاختلاف في تفسير الدُّستور، وتهاون القضاء في أمور عدة (اليوم) جعل كبار الفاسدين يغادرون البلاد. بعد 1958 بُعثت قضية اللائحة مِن جديد، وصدر قانون رقم 15 لسنة 1958، وحصل أن هيئ له إعلامياً. فقيل غنت المطربة العراقية عفيفة إسكندر "من أين لك هذا"، تأييداً للحملة عبر الإذاعة، ولست متأكداً هل كانت قبل الثَّورة أم بعدها! وهنا أشار الكثيرون إلى إجراءات أُتخذت في العهدين، الملكي والجمهوري، وتحت عنوان "من أين...". حتى وزعت استمارات على كبار الموظفين يحددون فيها أملاكهم قبل المناصب. ويُذكر أن أحد نواب البرلمان العراقي الحالي طرح فكرة تحديد الأموال الخاصة لكبار الموظفين، من وزراء ومديرين عامين، في الأقل، قبل الوظيفة أو المنصب، ليكون ذلك شاهداً على ما زاد عن الرواتب والمخصصات المشروعة، ككسبهم من عقود مع شركة، أو صفقة باسم المنصب والحظوة. إلا أنه أُسكت في وقتها! لكن، إشاعة هذا المبدأ وإعلانه عبر أجهزة الإعلام يشجع المجتمع على الإسهام في الرقابة والمحاسبة. وكذلك يثير لدى الموظفين الهاجس الأخلاقي، والتذكير بحجم الجريمة وأثرها، خارج نطاق الدائرة، على المجتمع ككل، إضافة إلى الشعور بالمتابعة والرقابة الأشمل. قصص موثقة في دفاتر الدولة الرسمية، أشارت إلى أمانة وحرص كبار موظفي الدولة أيام زمان، سواء من الذين نتفق أو نختلف مع نهجهم السياسي، لكن الأمانة هي الأمانة. يُذكر أن وزير داخلية في العهد الملكي طالبه معهد الأشعة بنصف دينار، مقابل تصوير شعاعي، ويكتب مسدداً ومعتذراً (البلداوي، لقاء الأضداد حقائق وثائقية). بل إن الملك نفسه تقدم بطلب للبرلمان بزيادة مخصصات ديوانه، ولم يتحقق له ذلك. وكان الحال مشهوراً مع نزاهة عبدالكريم قاسم (قتل 1963) المالية، وعبدالسلام عارف (قتل 1966) أيضاً. عموماً، "من أين لك هذا" مبدأ أو شعار تاريخي، استخدمه، بالاسم أو نحوه، خلفاء مسلمون، وحكام معاصرون، إلا أن وضع العراق الرَّاهن هو الأكثر حاجة لتحقيقه، لما فيه من عنوان ثورة لحفظ المال العام، فكما ترون غدَا العراقي مغترباً عن ثروات أرضه، يطفو كوخه فوق بحيرة من النفط، وهو لا يؤمّن قوت يومه! بينما العابثون في البحيرة، يتصرفون بمنطق: "وإني أمرؤٌ كُسروي الفِعال.. أُصيف الجبال وأشتو العِراقا"! ليُشرع: "من أين لك هذا"، عبر صوت عفيفة أسكندر، الذي مازال في ذاكرة الناس: "مِنْ أين لك هذا.. هذا من فضل ربي.. مِن أين لك هذا... هذا مجهودي وتعبي... ما تُكلي (قل لي) من أين لك هذا..."؟!