البشرية.. أمام الجوع والجليد!
الحديث الشاغل والهم الطاغي اليوم ارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان القطبين واحتمال غرق مساحات كبيرة من مدن وسواحل العالم. قبل ثلاثين سنة، عام 1982 نشرت مجلة "العربي" مقالاً مطولاً، وسط العواصف الثلجية التي كانت تعصف بأميركا وشواطئ القارة الأوروبية بعنوان "هل نحن مقبلون على عصر جليدي"؟! د. محمد عبدالغني سعودي، كاتب المقال، قال فيه: "لقد أصبح موضوع التغير المناخي حديث الدوائر العلمية، سواء كان خاصاً بانخفاض درجة حرارة الشتاء غير المعتادة في أوروبا وأميركا الشمالية، أو خاصاً بظاهرة الجفاف المتكرر في أفريقية جنوب الصحراء والهند وجنوب آسيا".
المحذرون من ارتفاع حرارة الأرض اليوم، يشيرون كذلك إلى جفاف أفريقيا والهند والمجاعات، ويبدو أن هذه المناطق "منكوبة".. سواء برد الجو أم سخن!
الطريف، أن المقال جاء فيه عكس ما نقرأ اليوم من تحذيرات يقول: "خرج المجتمعون من الحلقة البحثية التي عقدها اتحاد معاهد الدراسات المتقدمة في مدينة بون بألمانيا الغربية عام 1974، بأن الاتجاه المناخي الحالي الذي يميل إلى البرودة سيستمر إلى نهاية هذا القرن. وأن هناك كارثة مناخية محتملة في نهاية العقد القادم".
أي أن الكارثة المناخية المتوقعة كان موعدها عام 1994 مثلاً، وكان الاتجاه أن تكون "كارثة جليدية" على الأرجح! فقد عدّد المقال مراحل العصور الجليدية، وأنها كانت متفاوتة في مدى استمرارها، هذا غير العصور الجليدية الصغيرة أو الفرعية. وأضاف الكاتب: "ليس في استطاعة الأبحاث المناخية الآن أن تضع نموذجاً دقيقاً لما يمكن أن يحدث بالضبط إذا استمر التبريد الشديد في العقود القادمة".
وأوضح د. سعودي، أن المناخ متغير بطبيعته عبر التاريخ. وأن العصور الجليدية أطول بكثير من الفترات الدفيئة، "وتكون بدايتها فترة دفيئة تشبه الفترة التي نعيش فيها أو أكثر دفئاً". فهل ما نعاني اليوم من "احتباس حراري"، مقدمة في الواقع لعصر جليدي قادم، علماً بأن "الدورة الجليدية تستغرق أحياناً مائة ألف عام"!
يميل المناخ إلى التغيير بسرعة أكثر منه تدريجياً، يضيف د. سعودي: "فالتغير من مناخ جليدي إلى مناخ دافئ قد لا يستغرق أكثر من قرن، وإن كانت الاستجابة الكاملة للأنماط الحيوية والتكيف التام مع البيئة الجديدة قد يأخذ وقتاً أطول".
من ناحية أخرى، "التغيرات المناخية لابد وأن تصحبها تغيرات حضارية، فالتغيرات المناخية البسيطة التي حدثت في العشرة آلاف سنة الأخيرة، غيّرت من قدرته على تطويع البيئة مما أدى إلى تغيرات حضارية هامة".
ويطلق الجيولوجيون على العصر الجليدي تسمية "البلايستوسين" وهو القسم الأقدم من الزمن الرابع، آخر الأزمنة في التاريخ الجيولوجي، ويمتاز بعصر الجليد الكبير وبظهور الإنسان وتطوره، وقد تقدم الجليد خلال هذا العصر نحو الجنوب أربع مرات على الأقل، متبادلة مع فترات دافئة كانت تعاصر تقهقره، وكانت مسطحات الجليد في ذروة هذا العصر تغطي القارة المتجمدة الجنوبية، ومساحات كبيرة من أوروبا والأميركيتين وأجزاء من آسيا. وتشمل الثدييات المميزة لهذا العصر أربعة أصناف من الفيلة، والحصان الحقيقي، والقطط المُسَيَّفة الأسنان، والذئاب الضخمة والبيسن والخنزير والجمل والإنسان.
رافقت أحوال هذا العصر الفترة الأخيرة من التطور البشري، وذلك أن إنسان "نيندرتال" كابد الجو السائد في عصر تقدم الجليد العظيم للمرة الأخيرة، "وأكبر الظن أنه كان عاملاً على شحذ ذكائه بما تعلمه من مكافحة الزمهرير والتغلب على شدائده، كذلك كان ظهور الإنسان الحديث على وجه الأرض قبل أن تزول آثار عصور الجليد".
استمر هذا العصر ملايين السنين بين زحف وتراجع مع تطاول الأحقاب، مما كان يحيل أوروبا أحياناً إلى سهول قطبية، ثم تنحسر الثلوج فتنتشر الغابات، وقد تنقرض بعض الحيوانات. في الشهر اللاحق، أي أبريل 1982، نشرت "العربي" مقالاً مطولاً ثانياً حول عصر الثلج والبرد القادم، وفق تنبؤات العلماء ومراكز دراسة المناخ!
وكتب د. محمد صفي الدين أبو العز مقالاً بعنوان "تقلبات السياسة وتقلبات الطقس" أشار خلاله إلى أن: "هنالك ما يشبه الإجماع على أن الطقس العالمي "سيتآمر" في المستقبل القريب على المنجزات الإنسانية، وعلى ما حققه الإنسان خلال قرون طويلة من الصراع مع الطبيعة.
ويذهب أستاذ المتيورولوجيا في جامعة ويسكنسون الأميركية "ريد برايسون" إلى أن شمالي الولايات المتحدة سيتعرض لأمطار غزيرة في الوقت الذي سيطبق فيه الجفاف على الجنوب والمكسيك. وقد بنى الأستاذ الأميركي نبوءته على تحليل الإحصاءات المناخية العالمية "تحليلاً دقيقاً"، كما جاء في المقال، ومن هنا أيقن "أن الهواء القطبي البارد آخذ في الامتداد والتوغل جنوباً.. ليحل محل الهواء المداري الدافئ".
ويعني هذا، يقول د. أبو العز، إن الأرض تتعرض للتبريد التدريجي، وذلك بسبب
"ما طرأ على الغلاف الغازي من زيادة هائلة في نسب كل من الغبار البركاني والغبار الإنساني وثاني أكسيد الكربون، مما يؤدي إلى الحيلولة دون وصول حرارة الشمس إلى سطح الأرض". ونبه الكاتب القراء إلى تزايد النشاط البركاني وزيادة الغبار الذي يثيره النشاط الإنساني والإسراف في استهلاك الوقود العضوي، كالأخشاب والفحم والبترول، مما تسبب في "تزايد كبير في نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو، وكانت نتيجة هذا، زيادة برودة نصف الكرة الشمالي، وتقدم الغطاء الجليدي القطبي وتوغله صوب الجنوب". ويحق للقارئ اليوم وهو يقرأ هذا التحليل وهذه التوقعات والأسباب، أن يضرب كفاً بكف! فنفس هذه الأسباب والتحليلات تُساق اليوم في مسار معاكس، لتفسير الاحتباس الحراري وسخونة الكرة الأرضية ودخول الحرارة إلى الغلاف الجوي للأرض وعدم خروجها منه بسبب التلوث الكبير.. وثاني أكسيد الكربون! وهذا ما نسمعه كل يوم!
في المقال نفسه، ذهب عالم المناخ السوفييتي "ميخائيل بودايكو" إلى التنبؤ بزحف الأنهار الجليدية وامتداد الغطاءات الثلجية، وقال إنه إذا استمر الانخفاض الحالي في درجة الحرارة، فقد يكون ذلك "بداية لإطباق تسعين ألف عام من الجليد الكاسح الذي يمكن أن يكون مشابهاً في امتداده وتأثيره لجليد العصر الجليدي الثامن الذي انتهى منذ نحو عشرة آلاف سنة".
لقد كان التغير المناخي من مسببات الثورة الفرنسية وبخاصة تلك التي تعرضت لها البلاد عام 1788.. من الجفاف إلى عواصف البرد وتلف المحصول. وكانت التقلبات المناخية من أسباب تكرر مجاعة البطاطس في إيرلندا عام 1800 و1845 و1847، فخرجت منها أمواج بشرية من المهاجرين الجياع المفلسين إلى العالم الجديد.
ولعل أخطر ما يمكن أن ينجم عن جنوح المناخ العالمي نحو البرودة تحول كثير من دول الفائض في مجال الحبوب، مثل كندا وأستراليا، إلى دول مستوردة، ودخول عدد من القوى العالمية الكبرى حلبة التنافس من أجل الحصول على الغذاء.
والآن.. ما مصيرنا حقاً بين احتمالات عودة العصر الجليدي كما كانت تقول حسابات الأمس؟