معركة انتخابية... بمَقاسات أميركية!
يُعد عام 2012 -عام انتخابات رؤساء الدول الكبرى بامتياز.. من انتخاب الرئيس الروسي في لعبة تدوير الكراسي التي أعادت بوتين الرجل الحديدي مرة ثانية إلى الصدارة، إلى انتخاب الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا هولاند.. وثمة أيضاً انتخابات في الحزب الشيوعي الحاكم في الصين. وأخيراً انتخاب سيد البيت الأبيض... وفي الوقت الذي لم يحدث فيه كثير من اللغط والتغطية الإعلامية حول العالم لانتخاب رؤساء دول عظمى مثل بوتين وهولاند.. نرى الاهتمام والمتابعة والتغطية الموسعة على صعيد عالمي للاستحقاق الانتخابي في واشنطن، لأن انتخابات الرئاسة الأميركية أصبحت، عملياً، شأناً عالمياً على رغم كونها في الأصل شأناً محلياً.
وتبقى انتخابات الرئاسة الأميركية أيضاً الأكثر تعقيداً وإثارة وتكلفة وطولاً من بين جميع انتخابات الرئاسة في الديمقراطيات. وهي معركة يُجيّش لها الرأي العام ويجمع المال وتوظف أسلحة الإعلام.
والمفاجأة الكبيرة في نهاية الأمر أن الناخب الأميركي لا ينتخب الرئيس في الانتخابات العامة. وهذه هي المفاجأة الأولى... بل إن من ينتخب رئيس الولايات المتحدة حسب الدستور ونظرة الآباء المؤسسين الذين لم يثقوا بحكمة وقرار الناخب العادي وقد كان يومها، قبل 220 عاماً، أمياً وفقيراً وفلاحاً.. واستثنوا أيضاً النساء والسود ومن هم أقل من 21 عاماً من حق المشاركة. ثم منحت تلك الشرائح التي حُرمت من حق المشاركة السياسية حقوقها الدستورية بتعديلات لاحقة.
بل إن من ينتخب الرئيس هو أعضاء المجمع الانتخابي وعددهم 538 شخصية سياسية من الحزب الجمهوري و538 شخصية أخرى من الحزب الديمقراطي. أما لماذا الرقم 538؟ فالسبب أن ذلك يعادل مجموع عدد أعضاء مجلس الشيوخ الـ100 وعدد أعضاء مجلس النواب الـ 435 و3 ممثلين من العاصمة واشنطن غير الممثلة في الكونجرس الأميركي.
أما دور الانتخابات الشعبية للناخبين الأميركيين يوم الاقتراع فيقرر من يفوز بكل ولاية. والشيء المثير للجدل أن من يفوز مثلاً بأصوات ولاية نيويورك في التصويت الشعبي يحصل على جميع أصوات المجمع الانتخابي الـ29 ومنافسه ولو فاز بنسبة 49 في المئة من التصويت الشعبي لا يحصل على أي مقعد من مقاعد هيئة الناخبين.
والأفضلية والأولوية في نظام المجمع الانتخابي هي طبعاً للولايات الكبيرة، فلولاية كاليفونيا مثلاً 55 صوتاً في المجمع الانتخابي، وولاية تكساس 38 صوتاً، وولاية نيويورك وفلوريدا 29 صوتاً لكل منهما. ولا عزاء للولايات الصغيرة مثل آلاسكا 3 أصوات ورود إيلاند 3 وهاواي 4 أصوات، وهي ولايات لن يزورها أي من المرشحين!
ولا يهم أيضاً كم مليوناً يُصوت. أو كم مليون صوت حصل عليه المرشح. ولا توجد نسبة على الفائز أن يحصل عليها كما هو الحال في مصر أو فرنسا أو في الديمقراطيات الأخرى وإلا تجرى جولة الإعادة بين المرشحين اللذين حصلا على أكبر نسبة من الأصوات. بل يصبح رئيس أميركا كل من يحصل على ما لا يقل عن 270 صوتاً من المجمع الانتخابي، فمثلاً الرئيس أوباما فاز بـ 66,117,432 مليون صوت في التصويت الشعبي، ومنافسه ماكين حصل على حوالي 60 مليون صوت. ولكن لم يحسم ذلك منصب الرئيس. بل إن ما حسمه هو الـ365 صوتاً من المجمع الانتخابي التي فاز بها أوباما بينما حصل منافسه ماكين على 173 صوتاً من أصوات هيئة الناخبين. وهذه تعقيدات كان حتى طلبتي الأميركيين الذين كنت أدرّسهم مقرر النظام السياسي الأميركي يجدون صعوبة في فهمها، فما بالك بغير الأميركيين!
والحال أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة لطالما شككوا بصلاحيات الرئيس، واحتمال إساءة استخدام هذه الصلاحيات، وهم الذين فروا من اضطهاد ملوك أوروبا وتسلط الكنيسة. فرسّخوا تهميش العقدتين اللتين عانوا منهما في أوروبا. فبعد أن كانت الفكرة هي أن يكون رئيس السلطة التنفيذية -الرئيس- لجنة حتى لا يستفرد أحد في الحكم والقرارات، عادوا ووافقوا في الدستور على أن يكون رئيساً ولكن بقيود وشروط أو ما أسموه Checks and Balances.
وعلى رغم اعتقادنا بأن الرئيس الأميركي هو أقوى رجل في العالم، وقد يكون ذلك صحيحاً وخاصة بعد أن زادت صلاحيات منصب الرئيس تدريجياً وتقليدياً بسبب تعاظم دور الرئيس الأميركي في الشأنين الداخلي والخارجي، إلا أنه مع ذلك مقيد بالدستور والمحكمة العليا والرأي العام والإعلام.. ولا يمكنه أن يتخذ قرارات ثم لا يحاسب عليها. وهو نتاج للنظام الحزبي الأميركي الذي يكرس هيمنة الجمهورية بحزبين. ودائماً ما أتى الرئيس الأميركي من كوادر الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومن خلفية نائب الرئيس، أو عضو مجلس الشيوخ، أو حاكم ولاية، منذ أيزنهاور الجنرال العسكري المحبوب.
وهكذا يتكرس في أميركا نظام الحزبين ويزداد عزوف واستسلام كثير من الأميركيين تجاه عدم قدرتهم على تفعيل التغيير، والحد من الفساد السياسي، والمطالبة بحزب ثالث (يطالب به 40 في المئة من الناخبين) ينافس الحزبين ويغير من طبيعة النظام الأميركي الذي بقي على حاله طوال 220 عاماً... ولكن يبقى القرار والحسم للمال وأصحاب المصالح وجماعات الضغط وقوة تأثير الإعلام في توجيه قرار الناخب المشتت، وخاصة من لم يحسم أمره، والناخبين المستلقين.
وهناك من يطالب بإعطاء حق التصويت لشعوب العالم في انتخاب الرئيس الأميركي بسبب محورية وأهمية القرارات التي يتخذها، أو لا يتخذها، زعيم الدولة الأقوى والأغنى، لأنها تؤثر على حياة وواقع ومستقبل كثير من الشعوب، كقرارات الحرب والسلم والتدخل الإنساني، من إلقاء القنبلة النووية على اليابان وحرب كوريا وفيتنام والانخراط في سباق تسلح نووي مع السوفييت، وصولاً إلى تحرير الكويت، وإسقاط نظامي "طالبان" وصدام حسين، وانتهاءً بنصف المشاركة في ليبيا وعدم حسم موضوع التدخل في سوريا.
والمفاجأة الأخرى أيضاً أن من ينتخب الرئيس الأميركي في النهاية ليس أيضاً الشعب بل المال والإعلام وأصحاب المصالح. ولذلك فالمال هو عصب الحياة في سباق الرئاسة. ويتوقع أن تصل تكلفة انتخابات الرئاسة من أموال اللجنة الحزبية والمتبرعين الكبار وحتى الناخبين 2,5 بليون دولار. ولذلك وضعت مجلة "تايم" الأميركية موضوع وصورة الغلاف صورة للبيت الأبيض وقد وضعت تحته إشارة من شركة عقارية "للبيع بـ 2,5 بليون دولار"! في إشارة ذكية إلى طغيان المال والإعلام في حملات السباق الرئاسي. وأن من يقرر من سيكون سيد البيت الأبيض هو المجمع الانتخابي وليس الناخب دافع الضرائب، ولن يشارك في الانتخابات أكثر من 90 مليون ناخب، بمعنى أن 40 في المئة من الناخبين سيعزفون عن المشاركة!
هذه ديمقراطية على الطراز والمقاس الأميركي... وفي المقالة القادمة سأتناول تصوري لمن سيكون سيد البيت الأبيض. وللمهتمين بموضوع الانتخابات الأميركية، أتشرف بإعداد وتقديم برنامج على مدى 5 أشهر على الفضائية الكويتية الساعة 10 مساء كل يوم اثنين. الحلقة الأولى الليلة.