مصر وإسرائيل...مأزق سيناء الاستراتيجي
لم يكن لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 أن تتم لو لم يتوافر شرطان أساسيان: فبالنسبة لمصر كان يتعين على إسرائيل الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، وفي المقابل كان يتعين على إسرائيل التأكد من أن مصر لن تقوم بحشد قواتها على الحدود، لأن ذلك يشكل تهديداً شديداً على إسرائيل ويتسبب في أزمة مستديمة بين البلدين. لذلك كانت إسرائيل بحاجة لحاجز استراتيجي واق، تظل القوات المصرية الرئيسية بموجبه خارج سيناء.
وفي مقابل التخلي عن احتلال سيناء، تم إنشاء قوة دولية لحفظ السلام لمراقبة انتشار القوات في سيناء وطمأنة العدوين السابقين. وهذه القوة المعروفة باسم القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين ويرمز إليها بالحروف(MFO) تتواجد خارج وصاية الأمم المتحدة، بسبب عدم استساغة السوفييت لسلام مكفول أميركيا وشكوك إسرائيل الدائمة تجاه حياد المنظمة الدولية.
حتى سقوط مبارك كان ينظر لسيناء على أنها منطقة نائية استراتيجية، نادرا ما يرد ذكرها في أي نقاش متعلق بأمن منطقة الشرق الأوسط. وبمرور الوقت، تحولت القوة المتعددة الجنسيات إلى قوة منسية على اعتبار أنها تؤدي عملها بشكل منتظم وكفؤ يخلو تقريباً من الحوادث. وقلما يثير جدلاً.
كل ذلك تغير بين عشية وضحاها تقريباً عام 2011 ، عندما تحولت شبه جزيرة سيناء إلى مصدر رئيسي من مصادر التوتر بين إسرائيل ومصر، وبين كل منهما والجماعات المتطرفة التي وجدت طريقها لصحاريها، وتفاعلت مع السكان الأصليين من البدو. وقد لعب هؤلاء دوراً كبيراً في تزايد أنشطة التهريب على امتداد الحدود، وهي أنشطة ازدهرت لحد كبير بسبب ضعف السيطرة المصرية على الحدود التي تفصل بين سيناء وباقي أجزاء مصر. ومع تقلص القدرة المصرية وعدم استعداد جيشها للتصرف حيال ذلك الوضع نمت ثلاث ظواهر:
الظاهرة الأولى، أن سيناء باتت هي الطريق المفضل للالتفاف على الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، مما وفر سلطة وحقق أرباحا طائلة لحركة "حماس" التي تحكم القطاع، ولأنصارها والمتعاونين معها الذين قاموا بحفر العديد من الأنفاق عبر حدود القطاع مع مصر لإدخال ما يحتاجونه من سلع وأسلحة وأشياء أخرى.
الظاهرة الثانية، استخدام موجات متتالية من المهاجرين غير الشرعيين - من القارة الأفريقية أساساً – شبه جزيرة سيناء كممر للوصول إلى إسرائيل بحثاً عن العمل واللجوء السياسي.
الظاهرة الثالثة، والأكثر خطورة هي انتشار عدد من الجماعات المتطرفة تضم مسلحين من السكان المحليين، بل وربما من "حزب الله" اللبناني، قامت خلال السنوات القليلة الماضية باستخدام ذلك الفضاء غير المحكوم نسبياً، لشن هجمات من جانبي الحدود.
وكان الهدف المفضل لتلك الجماعات هو خط الأنابيب الذي ينقل الغاز لإسرائيل والأردن الذي تم تفجير أجزاء منه 15 مرة على الأقل منذ الثورة على نظام مبارك، وهو ما فرض إجراء تعديلات رئيسية في قطاعي الطاقة في إسرائيل والأردن.
وبمضي الوقت تحولت سيناء إلى مصدر رئيسي لقلق الحكومة المصرية. ووقعت خلال ذلك عدة حوادث فاقمت من ذلك القلق منها، أنه في إحدى المرات قامت القوات الإسرائيلي في إطار ردها على هجوم وقع على مواقع لها من مسلحين قادمين من وراء الحدود، بقتل عدد من حرس الحدود المصريين الأمر الذي أثار اضطرابات كبيرة في مصر، وكان حافزاً للمحتجين على شن غارة واسعة النطاق- ومحرجة للحكومة المصرية- على مقر السفارة الإسرائيلية في القاهرة.
وفي الخامس من شهر أغسطس الحالي تعرض موقع حدودي مصري لهجوم من جماعة مسلحة أسفر عن مصرع 16 جندياً، وعن سرقة عدد من ناقلات الجند المدرعة التي استقلها أفراد تلك الجماعة واتجهوا بها ناحية الحدود الإسرائيلية، واقتحموا نقطة تفتيش حدودية، ولم يتم إيقافهم إلا من خلال قصف من إحدى طائرات سلاح الجو الإسرائيلي.
ورداً على هذا الهجوم العنيف، شنت مصر حملة أمنية ضخمة شملت هجمات جوية، وأعلنت على إثرها أنها قد تمكنت من القبض على عدد من الإرهابيين.
ولكن الهجوم على النقطة الحدودية المصرية، وعدد الخسائر الكبير مثلا إحراجاً كبيراً للجيش المصري، وساعدا على توفير الحجة التي استند إليها الرئيس مرسي في إطاحة وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي.
بسبب الشروط الصارمة والشديدة التدقيق لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية 1979 ليس بمقدور مصر إدخال قوات جديدة لشبه جزيرة سيناء من دون الاتفاق مع الجانب الإسرائيلي على ذلك مقدماً. وهذا يعني أن إسرائيل تواجه مأزقا استراتيجياً كبيراً: ففي حالة عدم سماحها لمصر بتعزيز قواتها بأعداد تفوق الأعداد المسموح بها بموجب بنود الاتفاقية، فإن المتمردين سوف يزدادون قوة وجرأة ويمثلون خطراً أكبر على الدولتين معاً. أما إذا ما سمحت لمصر بإدخال المزيد من القوات إلى المناطق التي كان محظورة عليها بموجب تلك الاتفاقية، فإنه لن يكون بمقدورها التأكد من أن تلك القوات سوف تغادر مرة أخرى إذا ما انتفى الغرض من دخولها هناك.
فالقوة المتعددة الجنسيات الموجودة هناك لا تمتلك صلاحية، ولا إمكانية طرد تلك القوات من سيناء وإنما الإبلاغ فقط عن وجودها وأعداد جنودها وضباطها وحجم معداتها.
ومع قيام الرئيس المصري الجديد باتخاذ موقف ملتبس حيال اتفاقية السلام الموقعة بين بلاده وإسرائيل، وربما اتجاهه نحو التقارب مع الصين وإيران في الوقت نفسه، فإن ذلك كان في حد ذاته سبباً أثار مخاوف إسرائيل من احتمال تفكك المعاهدة. وإذا ما حدث ذلك فإنه سيكون بمثابة الكارثة على البلدين، كما يمكن أن يكون فتيلاً يشعل نار العنف، وقد يقود إلى نشوب حرب جديدة بين الدولتين.
لا شك أن هذا سيكون خطوة كبيرة للوراء للسياسة الغربية في المنطقة، التي نظرت إلى اتفاقية السلام بين الدولتين كحجر زاوية للأمن في سائر أرجاء المنطقة. وبوجود تهديد على حدودها الجنوبية، فإن إسرائيل لن تقدم على الأرجح على المخاطرة في مناطق أو مجالات أخرى، كالدخول مثلاً في عملية سلام جديدة مع الفلسطينيين.