بعد أربع سنوات قضاها على رأس الدبلوماسية الخارجية لأكبر ديمقراطية في العالم، قدّم "اس ام كريشنا" (80 عاماً) استقالته من منصبه كوزير للشؤون الخارجية الهندية، قائلاً إنه يريد إفساح المجال لوجوه أكثر شباباً. وبعد أربعة أيام على تعيين خلف له في المنصب، هو سلمان خورشيد، نظم عشرات النشطاء الاجتماعيين مسيرةً ضد الوزير الجديد، متهمين إياه بارتكاب مخالفات مالية في منظمة خيرية تديرها زوجته في ولاية أوتار براديش. ورغم الأزمات التي تواجهها الحكومة الهندية برئاسة مانموهان سينج، وفي مقدمتها تباطؤ النمو الاقتصادي، وبعض الفضائح التي هزتها خلال العامين الماضيين، فإن الهند تتطلع إلى انتهاج "استراتيجية عظمى" في مجال السياسة الخارجية، لاسيما أنها تواجه أكثر من تحد في إقليمها، سواء فيما يتعلق بالمنافسة مع الصين الصاعدة، أو بسبب القلاقل مع جارتها النووية الأخرى باكستان، فضلاً عن خلافات مع نيبال وبنجلاديش وغيرهما. ومعلوم أن كريشنا استطاع تحقيق اختراقات في تلك الملفات، فأحدث مزيداً من الانفراج في العلاقة مع الصين، ودفع بالعلاقات مع الولايات المتحدة نحو مستويات تحالف غير مسبوقة، فضلاً عن الاندفاعة القوية نحو أفغانستان التي ظلت على الدوام حديقةً خلفيةً لباكستان. وهي نجاحات عوضت لحكومة "التحالف التقدمي المتحد" بقيادة "حزب المؤتمر الوطني" ما يعتبره معارضوها فشلاً في أداء سياساتها الداخلية. وفي أجواء داخلية طبعتها الانتقادات المتزايدة للحكومة الحالية، وبدافع الرغبة من "حزب المؤتمر الوطني" في تحسين صورته قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في عامي 2013 و2014، شهدت حكومة سينج تعديلاً كبيراً يوم الأحد 28 أكتوبر، حيث تم تعيين 17 وزيراً جديداً من أصل 22 وزيراً يشغلون إجمالي الحقائب الحكومية. ومن الوزراء السابقين في الحكومة الجديدة سلمان خورشيد الذي كان حتى تعيينه في منصبه الجديد كوزير للخارجية، وزيراً للقانون والعدل وشؤون الأقليات. فما هي الخلفيات السياسية والمهنية لخورشيد؟ وكيف يُنظر إليه كوزير لخارجية الهند؟ سلمان خورشيد محام وكاتب ونائب برلماني ووزير مخضرم، عاش حياته السياسية كلها في "حزب المؤتمر" الهندي. وقد امتدحه كل من رئيس الوزراء الحالي سينج، ورئيسة الحزب سونيا غاندي، وراهول غاندي نجل رئيسة الوزراء الراحلة انديرا غاندي... فوصفوه بأنه خبير متمرس في شؤون الحزب وصاحب بصيرة في مجمل القضايا السياسية، وهي ميزات شديدة الأهمية لمن يتولى إدارة الدبلوماسية الخارجية لدولة قارية صاعدة مثل الهند. وقد ولد سلمان خورشيد عام 1953 في"أليجار" بولاية أوتار براديش، ونشأ في وسط سياسي ينتمي كله لحزب المؤتمر الوطني، وكان والده خورشيد عالم خان وزيراً لخارجية الهند، كما كان جده لجهة الأم الدكتور ذاكر حسين الرئيس الثالث للهند. وتلقى سلمان تعليمه العالي في مدرسة "سانت كزافييه" في "باتنا" بولاية بيهار، وحصل على شهادة الماجستير من كلية سانت ستيفن في دلهي. كما درس في جامعة أكسفورد ببريطانيا وعمل محاضراً فيها لبعض الوقت. وبدأ خورشيد حياته السياسية كمكلف بمهمة في مكتب رئيسة الوزراء أنديرا غاندي عام 1981، ثم أصبح نائب وزير التجارة، ثم وزير الدولة للشؤون الخارجية بين عامي 1991 و1996، وهي الفترة التي كان خلالها عضواً في البرلمان عن دائرة فاروق آباد بولاية أوتار براديش. وقد أعيد انتخابه مرة أخرى لنفس المقعد -وعن "حزب المؤتمر" دائماً- في الانتخابات العامة لعام 2004 بحوالي 351 ألف صوت. وهي الانتخابات التي أعادت الحزب إلى السلطة بعد ست سنوات من المعارضة. وفي انتخابات 2009 أعيد انتخاب خورشيد لنفس المنصب. وفي ثاني تعديل أجري على حكومة سينج عقب الانتخابات، انضم إليها خورشيد، في يوليو 2011، كوزير للقانون والعدل وشؤون الأقليات، أي المنصب الذي بقي فيه حتى تعيينه وزيراً للشؤون الخارجية الأسبوع الماضي. ونال خورشيد شهرة واسعة من خلال دفاعه القوي في المحاكم الهندية عن جماعة "سيمي" الإسلامية، وذلك بعد أن تم حظرها مرات عدة، إثر اتهام السلطات الهندية لها بالتورط في "أنشطة إرهابية". وفي مرافعاته المطالبة برفع الحظر عن الجماعة، قال خورشيد: "اعتدت ألا أقبل الدفاع عن شخص أو جماعة، إلا إذا كنت مقتنعاً قناعةً تامةً بأن نشاطها وقضيتها ليسا ضد الأخلاقيات العامة وأخلاقيات المهنة". كما اشتهر بمطالباته المتكررة في البرلمان بسن قانون يعيد للمسلمين أملاكهم وأراضيهم التي فقدوها بعد تقسيم الهند وقيام دولة باكستان، وهي أملاك وأراضٍ صادرتها الحكومة الهندية بحجة أنه لا أصحاب لها. وكما يعد خورشيد محامياً متمكناً، وخطيباً مفوهاً، فهو كاتب بارع ومبدع؛ أوتي القدرة على التعبير والإمساك بخيوط الفكرة. وقد عكست قصصه ومسرحياته المبكرة وجهاً لإمكاناته الأدبية الكبيرة. هذا علاوة على أنه يتقن اللغات الهندوسية والأوردية والإنجليزية. كما أنه وجه مألوف في الأسرة الدبلوماسية الدولية، لاسيما بعد عمله وزيراً دولة للشؤون الخارجية على مدى عدة أعوام، حيث لعب دوراً حيوياً في ترجمة سياسة "التوجه شرقاً" الهندية، والتي بدأت في عهد رئيس الوزراء الأسبق راجيف غاندي، خاصة مع جولته الآسيوية في عام 1988 والتي شملت الصين واليابان، إضافة إلى أستراليا ودول جنوب شرق آسيا. ويتولى خورشيد قيادة دفة الدبلوماسية الهندية في وقت تتزايد فيه أهمية الهند كقوة سياسية واقتصادية صاعدة في العالم، وقد أخذت نظرة معظم الدول إليها تتكون انطلاقاً من ذلك المفهوم، وحيث يـعتقد على نطاق واسع أن ما تحظى به الهند من حضور على ساحة السياسة الدولية في الوقت الحالي، وتسابق القوى العالمية والإقليمية المؤثرة على كسب ودها وتعاونها، إنما يعود في أحد أسبابه إلى ما تتصف به سياساتها الخارجية من مرونة وقدرة على التكيف مع المتغيرات أياً كان شكلها. ولعل أحد أوجه ذلك التكيف هو التعديل الوزاري الأخير الذي وضع خورشيد على رأس واحد من أهم المناصب الحكومية، مما جعل سينج يقول للصحفيين، عقب أداء الوزراء الجدد اليمين الدستورية، يوم الاثنين الماضي، إن الحكومة الجديدة "مزيج من الشباب والخبرة"، وهو الوصف الذي يرى البعض أنه ينطبق على خورشيد، لاسيما أنصاره في أوتار براديش، والذين ردوا على اتهامات "الفساد" بحقه، معتبرينها "استفزازية ومغرضة"، ومنافية لتاريخ الرجل وما يتمتع به من مواهب وإمكانات! محمد ولد المنى