من الجوانب التي تستحق النظر في الظاهرة الصهيونية أن الجيب الاستيطاني الصهيوني يعيش في حالة حرب مستمرة منذ عام 1948، وهو تاريخ إعلان قيام الدولة الصهيونية، بل ومنذ عام 1882، وهو تاريخ وصول أول مجموعة من المستوطنين الاستعماريين الصهاينة إلى أرض فلسطين. ولا غرابة في ذلك، فمن الخصائص الأساسية لهذا الجيب أنه جيب وظيفي قتالي، زرعه الاستعمار الغربي في قلب العالم العربي ليقوم بالقتال دفاعاً عن المصالح الإستراتيجية الغربية وعن وجوده، وفي نظير ذلك يتولى الغرب دعمه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً فيضمن استمراره وبقاءه. ونظراً لهذه الوظيفة القتالية، تكتسب المادة البشرية القتالية، التي يشكل الشباب عمودها الفقري، أهمية قصوى، ويصبح من الضروري لفهم مستقبل الصراع العربي الصهيوني التعرف على وضع الشباب الإسرائيلي وموقفه من الصهيونية ومن تلك الحروب المستمرة.
فقد جاء المستوطنون الصهاينة من أوروبا محملين بأفكارهم العنصرية الاستبعادية وأسلحتهم الغربية الحديثة، واستخدموا أقصى أشكال العنف للاستيلاء على الأرض الفلسطينية، واستقروا عليها وكونوا عائلات وأنجبوا أطفالاً، شأنهم في ذلك شأن أي استعمار استيطاني إحلالي. وكان يُطلق على أبنائهم اسم "الصابرا"، وهي كلمة مشتقة من الكلمة العربية "الصبَّار" أو "التين الشوكي". وقد تردد هذا المصطلح في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرةً، حيث أُطلق على التلاميذ اليهود من مواليد فلسطين، والذين كانوا يحسون بالنقص حيال أقرانهم الأوروبيين الأكثر تفوقاً في الدراسة، مما كان يحدو بهم إلى تعويض هذا الشعور بتحدي هؤلاء الأوروبيين بنوع من النشاط الخشن يرد لهم اعتبارهم. إلا أن هذا المصطلح أخذ في الاختفاء تدريجياً بسبب التنوع العرقي في الجيب الصهيوني، إذ كان يشير في بادئ الأمر إلى أبناء المستوطنين الصهاينة الغربيين (الأشكناز)، ثم حاول علم الاجتماع الإسرائيلي توسيع نطاقه ليشمل أيضاً أبناء المستوطنين من اليهود الشرقيين (السفارد)، ولكن هذه المحاولة لم يُقدر لها النجاح، وخاصةً بعد وصول أفواج من يهود الفلاشاه والهند ودول الاتحاد السوفيتي السابق، مثل روسيا وأوكرانيا وجورجيا والجمهوريات الإسلامية. ولهذا، يجدر التخلي عن هذا المصطلح واستخدام مصطلحات أخرى بدلاً منه، مثل "الأجيال الجديدة" أو "الشباب الإسرائيلي".
ولفهم عقلية هذه الأجيال الجديدة، ينبغي الإشارة إلى أن الصهيونية تنطلق من نقد عميق لما يُسمى "يهود المنفى"، أي يهود العالم باستثناء فلسطين، إذ يتهمهم الصهاينة بأنهم شخصيات طفيلية، شاذة ومريضة وضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولابد أن تلجأ لغير اليهود (الأغيار) ليكفلوا لها الأمن والبقاء. وقد طرح الصهاينة رؤيتهم للمجتمع اليهودي المثالي (أي المجتمع الصهيوني) بوصفه جزءاً من مشروع حضاري متكامل يهدف إلى تحويل "يهود المنفى" إلى شخصيات سوية منتجة وقوية وقادرة على حماية نفسها. وتستخدم الأدبيات الصهيونية تعبير "العبراني الجديد" للإشارة إلى هذا اليهودي الجديد، الذي يُراد له أن يكون النقيض الكامل لشخصية اليهودي النمطية، وهو ما عبَّرت عنه إحدى القصائد بدعوة المستوطنين الصهاينة لأن يكونوا "أول العبرانيين وآخر اليهود". كما عبَّر الشاعر تسفي جرينبرج عن معنى مماثل عندما كتب في إحدى قصائده:
الأمهات اليهود أحضرن أطفالهن [من المنفى الموبوء] إلى الشمس [في فلسطين]
ليحترق الدم الذي يجري في عروقهم، ويزداد حمرةً
بعد أن بهت في الجيتو وعالم الأغيار.
وقد أشار آرثر كوستلر إلى هذا النموذج الجديد باعتباره "طرزاناً يهودياً"، أي إنساناً طبيعياً مجرداً من القيم والتاريخ، يعيش بقيم الغابة الداروينية، ولا يحتفظ من اليهودية سوى بالاسم. كما يُوصف هذا النموذج أحياناً بأنه "سوبرمان يهودي" قياساً على بطل نيتشه الأرقى الذي يمجده الفكر النازي والصهيوني، وهو بطل خارق يجسد مجموعة من القيم التي تعلي من شأن الفعل في مقابل الفكر، ومن القوة الذاتية في مقابل الاعتماد على الأغيار.
وقد حوَّلت الصهيونية العهد القديم إلى مأثور شعبي لهذه الشخصية الجديدة، وهو كتاب تفيض صفحاته بوصف لحروب كثيرة خاضتها جماعات العبرانيين ضد الكنعانيين وغيرهم من الأقوام السامية، حيث طردوا بعضها وأبادوا البعض الآخر. وانطلاقاً من تصورهم لهذه الشخصية الجديدة، أعاد الصهاينة كتابة ما يسمونه "التاريخ اليهودي"، فأكدوا أن العبرانيين كانوا جماعة محاربة من الرعاة الغزاة الذين أبقوا رايات اليهود مرفوعة، كما بينوا أن ثمة تياراً عسكرياً قوياً في التراث اليهودي، مسلطين الضوء على أحداث بعينها مثل غزو العبرانيين أرض كنعان، وعلى أبطال عسكريين مثل يوشع بن نون وداود التوراتي، فضلاً عن إبراز ما جاء في التراث الحاخامي من أن "السيف والقوس هما زينة الإنسان". وفي هذا السياق، كان جابوتنسكي، الأب الروحي لبيجن وشارون، يوصي الشباب اليهودي "بالاحتفاظ بالسيف، فهو ملك لأجدادنا العبرانيين الأوائل... لأن التوراة والسيف