كيف يتحول أفراد عاديون إلى أشخاص خطرين متورطين في الإرهاب؟ وما الطريقة التي ينظر بها قاضٍ مهني محترف في مطاردة جرائم الإرهاب إلى عقلية، أو بالأحرى لاعقلانية أولئك الأفراد الضالعين في ممارسات إجرامية ذات صلة بهذه الآفة العالمية؟ وما هي استراتيجية فرنسا تحديداً لمكافحة هذا البلاء ذي الخطر المتمدد دولياً، دون قيود أو حدود؟ هذا ما يثيره القاضي الفرنسي المتخصص في شؤون مكافحة الإرهاب "مارك تريفيديك" في كتابه الصادر مؤخراً وعنوانه "إرهابيون... أعمدة اللاعقل السبعة"، الذي يحلل فيه ظاهرة الإرهاب مفككاً العوامل المودية إليها والعناصر المكونة لها، من خلال عملية غوص عميقة في طريقة تفكير الإرهابيين، الذين يدرسهم في كتابه بالاستناد على سبع حالات محددة حقيقية مستمدة من تجارب عمله، يخرج منها بحزمة تعميمات قابلة لأن تصدق أيضاً على غيرها من حالات، ولذلك تعمد جعل عنوان كتابه نكرة هكذا "إرهابيون"، على رغم كون أفراد عينته معرفة، أي أنهم أفراد معروفون بالاسم والرسم، وهم من ضمن من أمسك هذا القاضي بملفات قضاياهم في يوم من الأيام. ولعل مما يزيد قيمة هذا الكتاب أيضاً أن القاضي "تريفيديك" يعتبر اليوم أحد أشهر قضاة مكافحة الإرهاب في أوروبا، كما أصدر قبل سنتين كتاباً آخر ذائع الشهرة عنوانه "في قلب الإرهاب". وضمن محاولات رسم ملامح وطريقة تفكير الفرد المتطرف المنحرف ذي الميول الإرهابية لا يتردد مؤلف الكتاب أحياناً في تقمص ذاتية وعقلية هذا الفرد مبرزاً الكيفية التي يسير بها شيئاً فشيئاً إلى مفارقة العقلانية والسوية الذهنية في الأقوال والأفعال حتى يجد نفسه أخيراً وقد فارق مفردات الواقع، بل صار مناوئاً لها، وسابحاً في واقع آخر بديل من الميول والانحرافات السلوكية والدينية، هو ما يشكل عادة عالم المتطرفين والمنحرفين، من كل شكل ولون. وهنا يستعرض الكاتب مثلاً تجربة "ستيفان" ذي الستة عشر عاماً، المنحدر من أسرة فرنسية عادية غير مسلمة، الذي اهتدى إلى الإسلام أولاً وأصبح اسمه "أبوبكر"، ولكن مخالطته لأوساط متطرفة حولته بسرعة إلى أحد غلاة المتطرفين الراديكاليين الإسلاميين، بدل أن يكون مسلماً متديناً عادياً كامل الاعتدال والوسطية والسوية الدينية والثقافية. ويتتبع الكاتب أيضاً حالة ثانية هي "آسية" التي تلقت تعليمها في مدرسة علمانية فرنسية، ولكن علاقاتها الاجتماعية أدت بها أيضاً إلى أن تبدأ السير حثيثاً على طريق التنطع والغلو والتطرف، لتتعرف من خلال مواقع الإنترنت على أحد المتشددين الراديكاليين سيتحول إلى زوجها المستقبلي، ليأخذها هو أيضاً معه أشواطاً أخرى على طريق تصليب تطرفها الديني إلى أبعد مدى ممكن. وذات الشيء يصدق كذلك، مع اختلاف التفاصيل في البداية والنهاية الدموية، على محمد مراح، المتطرف الفرنسي الذي قتل الجنود، والأطفال اليهود، ومات برصاص جهات إنفاذ القانون ضمن وقائع صاخبة معروفة إعلامياً وشعبياً في فرنسا على أوسع نطاق. وبين دفتي كتابه يستعين القاضي "تريفيديك" ببعض خلاصات وقصاصات ما يمكن تسميته بعلم نفس الإرهاب، شارحاً ما يستند عليه الإرهابيون من تبريرات ذاتية يقنعون أو بالأحرى يعللون بها أنفسهم كذرائع لانخراطهم في أعمالهم الإجرامية، بل في الوقوف على الجانب الخطأ أخلاقياً ومنطقياً وعقلانياً في مختلف أقوالهم وأفعالهم. كما يتوقف أيضاً مع بعض الأحداث الخاصة التي لعبت أدواراً خطيرة في تفشي ظاهرة الإرهاب، وخاصة خلال عنفوان الحرب الأفغانية ضد الاحتلال السوفييتي. ولا يتردد الكاتب أيضاً أثناء عمليات تحليل وتتبع جذور وبذور الإرهاب في تسجيل حجم المعاناة التي تتكبدها المجتمعات المعاصرة نتيجة هذا النوع الجديد- القديم من أنواع الجريمة المنظمة، الذي تتضاءل إلى جانب مخاطره المتفاقمة خطورة بقية أنواع الجريمة المنظمة الأخرى، خاصة مع تلون خطر الإرهاب المعاصر وقدرته على تغيير مواقعه ومظاهرة، وتحوله اليوم من إرهاب التنظيمات المصنفة المعروفة كـ"القاعدة" وغيرها، إلى إرهاب الخلايا النائمة، والأفراد، هذا زيادة على اتساع ساحات نشاطه، إلى قارات ومناطق فقيرة جديدة كمنطقة الساحل الإفريقية، ولذلك يعتبر الكاتب أن الرئيس فرانسوا أولاند كان مصيباً بنسبة 120 في المئة في مبادرته بالتدخل العسكري في شمال مالي، لوقف خطر "القاعدة" وغيرها من تنظيمات إرهابية تهدد وحدة تلك الدولة، واستقرار دول الإقليم الأخرى القريبة والبعيدة. حسن ولد المختار --------- الكتاب: إرهابيون... أعمدة اللاعقل السبعة المؤلف: مارك تريفيديك الناشر: لاتيس تاريخ النشر: 2013