زيمان: صفحة جديدة وأخرى تطوى... في تشيكيا!
عقب انتخابات رئاسية غير مسبوقة، أُعلن في جمهورية التشيك فوز المرشح ميلوز زيمان بنسبة 56 في المئة من الأصوات، مقابل 44 في المئة لمنافسه المحافظ كاريل شوارزنبيرغ. وبذلك يصبح زيمان ثالث رئيس لتيشكيا منذ استقلالها عام 1993، وأول رئيس تختاره بالانتخاب العام المباشر. وبعيد إعلان النتائج، تحدث زيمان قائلًا: «أقدر أيضاً تصويت الناخبين لمنافسي، فمشاركتهم بحد ذاتها أعطت الدليل على الحيوية السياسية لشعبنا... وأعدكم أن أكون رئيساً لجميع المواطنين».
وميلوز زيمان سياسي تشيكي ينتمي ليسار الوسط، ويرأس «حزب الحقوق المدنية»، وقد سبق أن انضم للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، ثم شارك في «الثورة المخملية» ضده، ودخل البرلمان نائباً، وترأس مجلس النواب، ثم تولى رئاسة الحكومة.
وقد ولد ميلوز زيمان عام 1944 في مدينة كولين بمقاطعة بوهيم التشيكية، وفي نهاية دراسته الثانوية عام 1963، مُنع من الالتحاق بالجامعة عقب نشره مقالاً عن «مازاريك توماس»، الفيلسوف الذي كان أول رئيس لجمهورية تشيكوسلوفاكيا بعد استقلالها عام 1918، لكنه في عام 1965 استطاع الالتحاق بمدرسة براج العليا للاقتصاد، ثم بجامعتها عام 1967، ليتخرج عام 1969 بأطروحة حول التوقعات الاقتصادية. بعدئذ عمل زيماً مدرساً، وكان منشغلاً بالعمل السياسي، حيث أصبح عضواً في «الحزب الشيوعي» عام 1968، لكنه سرعان ما طرد منه لمعارضته الاحتلال السوفييتي.
وكان زيمان أحد المشاركين في انطلاق «الثورة المخملية» يوم 17 نوفمبر عام 1989، وما أعقبه من لقاءات أفرزت قيام «المنتدى المدني» بقيادة فاكلاف هافل. وبعد الإطاحة سلمياً بالحكومة الشيوعية عام 1989، شهدت البلاد في العام التالي أول انتخابات عامة ديمقراطية وحرة، فاز فيها «المنتدى المدني» بخمسين مقعداً من أصل 75 مقعداً في مجلس النواب، وكان زيمان أحد الفائزين عن المنتدى، فترأس لجنة الميزانية في البرلمان الجديد. وفي عام 1992، وانضم إلى «الحزب الاجتماعي الديمقراطي»، وانتخب عنه بمجلس النواب التشيكي. وفي ذلك العام قدّم مشروعاً يدعو إلى إعادة بناء تشيكوسلوفاكيا وفق النموذج الكونفدرالي، أقرّته الهيئة التشريعية الاتحادية ليتم الإعلان عن تقسيم تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين؛ تشيكيا وسلوفاكيا. وبعد الانفصال تم انتخاب زيمان رئيساً لـ«الحزب الاجتماعي الديمقراطي»، فقاده في انتخابات عام 1996 ليفوز بنسبة 26?4 في المئة من الأصوات و61 من أصل 200 مقعد في البرلمان، وليصبح ثاني أكبر تشكيلة سياسية في البلاد. وبوساطة من رئيس الجمهورية هافل بين الحزبين «الاجتماعي الديمقراطي» و«المدني الديمقراطي»، تم انتخاب زيمان رئيساً لمجلس النواب. وواصل الحزب صعوده، ففاز بالمركز الأول في انتخابات عام 1998، بنسبة 32.3 من الأصوات و74 مقعداً في البرلمان، ليبرم صفقة مع «الحزب الديمقرطي المدني»، يصوت هذا الأخير بموجبها لزيمان، مقابل دعم الاجتماعيين الديمقراطيين لفاكلاف كلاوس، رئيس ومرشح «الحزب الديمقراطي المدني»، ليترأس البرلمان، وامتناع الأخير أيضاً عن التصويت على سحب الثقة من زيمان وحكومته... فتم تنصيبه رئيساً للوزراء بأغلبية برلمانية في 17 يوليو عام 1998.
لكن عراقيل وتعقيدات ظهرت في طريق زيمان، لاسيما بداية من إبريل عام 2001 عندما أُقيل من رئاسة الحزب، ليحل محله نائب رئيس الوزراء ووزير العدل والشؤون الاجتماعية، فلاديمير سبيلدا، فأعلن عدم ترشحه للانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو عام 2002، والتي شهدت فوزاً آخر لـ«الحزب الاجتماعي الديمقراطي». ثم حاول في العام التالي استئناف مسيرته، فخاض الانتخابات الرئاسية، لكنه فشل في تخطي الجولة الأولى منها، ليعلن خروجه من الحياة السياسية، وإن ظل عضواً في «الحزب الاجتماعي الديمقراطي». إلا أنه غادر الحزب أيضاً، لخلاف مع رئيسه الجديد جيري باروبيك، في عام 2007. وبعد عامين، أسس زيمان «حزب الحقوق المدنية»، لكن الحزب الجديد لم يحرز في الانتخابات التشريعية (مايو 2010) سوى 4?3 في المئة من الأصوات، أي أقل من الحد الأدنى اللازم لدخول البرلمان، وهو 5 في المئة، فاستقال من قيادة الحزب، لكنه انتخب لرئاسته الفخرية في نوفمبر من العام ذاته. وباسم الحزب، أعلن زيمان في 7 فبراير عام 2012، ترشحه للانتخابات الرئاسية في يناير عام 2013، وبدأ بجمع 50 ألف توقيع مطلوبة للترشح، لكنه نال أزيد من 82 ألف صوت، متخطياً بقية المرشحين. ومنذ وقت مبكر رشحته معظم التقديرات واستطلاعات الرأي للفوز بكرسي الرئاسة، لاسيما عقب مناظرة تلفزيونية مع المرشح المستقل «يان فيشر» بداية يناير المنصرم. وفي الجولة الأولى من الانتخابات، يومي 11 و12 يناير المنصرم، جاء زيمان في مقدمة المتنافسين، بنسبة 24?2 في المئة من الأصوات، قبل نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية كاريل شوارزنبرج الذي حصل على 23?4 في المئة. بينما جاء مرشح «الحزب الديمقراطي الاجتماعي»، جيري دينستبير، في المركز الرابع بنسبة 16.1 في المئة من الأصوات. وفي الشوط الثاني، يومي 25 و26 يناير، فاز زيمان على شوارزنبرج بنسبة 54?8 في المئة من الأصوات، ليصبح أول رئيس لجمهورية التشيك يجري انتخابه بالاقتراع العام والمباشر، حيث كان البرلمان مسؤولاً قبل ذلك عن اختيار رئيس الجمهورية. وهي طريقة تعرضت للانتقاد بسبب تعقيداتها وما يرافقها من شبهات فساد ومحسوبية، لذلك قرر النواب في فبراير عام 2012 أن يجري انتخاب الرئيس، من حينه فصاعداً، بالاقتراع العام والمباشر.
وإذا كان الرئيس التشيكي لا يتمتع بصلاحيات واسعة، على غرار الرئيسين الأميركي والفرنسي مثلاً، فإنه يعين ويقيل الحكومة، ويصدق على القوانين التي يقرها البرلمان أو يستخدم ضدها حق النقض. كما أن انتخابه بالاقتراع العام المباشر يؤمّن له ولاية أقوى وشرعية أكبر مما كان في السابق. وهي شرعية تتأكد أهميتها في ظل الانكماش الشامل الناجم عن الكساد الاقتصادي ونسبة البطالة التي بلغت بين التشيكيين في ديسمبر الماضي 9?4 في المئة. لذلك يعد زيمان بإجراء إصلاحات اقتصادية تستعيد النمو وتحقق مصالح الطبقات الفقيرة، خاصة في الأرياف التي صوتت له، والتي تعاني من ارتدادات إعادة الهيكلة الاقتصادية الجارية في البلاد، وسط أزمة مالية خانقة تعصف بالاتحاد الأوروبي.
ومعروف عن زيمان تأييده انضمام تشيكيا للاتحاد الأوروبي، خلافاً للرئيس المنصرف الذي ظل طوال فترة حكمه (10 سنوات) يشكك في جدوى الاتحاد الأوروبي. لكنها صفحة التشكك التي يعد زيمان بطيها نهائياً، كما طوى مشروع قراره التقسيمي صفحة تشيكوسلوفاكيا، وطوى البرلمان صفحة الانتخابات الرئاسية غير المباشرة... فهل تتجه جمهورية التشيك، تحت رئاسة زيمان، والذي يؤدي اليمين الدستورية في 8 مارس المقبل، نحو صفحة جديدة من تاريخها بالفعل؟
محمد ولد المنى