تكاد تلتقي الآن كل الخطابات التي تطلقها شخصيات اقتصادية، أو سياسية في أوروبا على التقليل من مخاطر الأزمة المالية الراهنة، وتأكيد أن استعادة عافية الاقتصاد باتت وشيكة، كما أن عودة معدلات النمو إلى مستويات مقبولة ستتحقق في النهاية. ويقترن هذا الحديث المتفائل عادة مع تأكيد حقيقة أخرى موازية هي ضرورة تحمل قدر محسوس من سياسات التقشف، والتجلد لتقبل كافة التضحيات اللازمة، التي قد تكون لها تداعيات اجتماعية صعبة على الشرائح الشعبية، خاصة في الدول الأوروبية، لأنها لا تخلو عادة من المرارة، كأي علاج آخر، ولكنها أيضاً ستـتجاوز، حالما تنتهي تداعيات وأعراض الأزمة المالية، لأن دورة الاقتصاد الطبيعية ستعود إلى سابق عهدها. ومن منطق الأمور أن الاقتصاد الرأسمالي يمر بمثل هذه الاضطرابات الموسمية، بل يحمل في طياته بذور نشوبها. ولكن هل الأمور حقاً بهذه البساطة، بحيث تصبح أزمة أوروبا المالية العارمة الراهنة مجرد تقلب من تقلبات مزاج النظام الرأسمالي؟ أم أن المشكلة هيكلية ومتغلغلة في مفاصل وبنيات النظام الاقتصادي الغربي كله، وبالتالي تفرض استعادة السوية الاقتصادية، ومن ثم معدلات النمو السابقة، إصلاح كافة تلك الاختلالات البنيوية مسبقاً، وبشكل جذري؟ هذا ما يناقشه كتاب "أين يمضي العالم؟ من 2012 إلى 2022 عقد ما قبل الكارثة"، الذي هو حصيلة جهود مشتركة بين أربعة مؤلفين فرنسيين بارزين، من المعنيين بالشأن الاقتصادي والبيئي، هم "إيف كوشيه" وهو برلماني بيئي عن باريس، ووزير بيئة سابق، وصاحب مؤلفات ذائعة عن شؤون البيئة ومستقبل الطاقة والصدمة النفطية، و"جان بيير ديبي"، وهو فيلسوف، ومؤلف كتاب "من أجل كارثية مستنيرة"، وسوزان جورج وهي مؤلفة لعمل شهير عنوانه "أزمتهم وحلولنا"، وأخيراً سيرج لاتوش وهو عالم اقتصاد أصدر كتاباً شهيراً أيضاً عنوانه "رهان نزع النمو". ومع الروح التفاؤلية والتبسيطية التسطيحية المشار إليها من قبل، التي يحاول الساسة والاقتصاديون الأوروبيون إشاعتها حيال الأزمة، فإنه لا أحد منهم يقدم أيضاً طرحاً متماسكاً حول سبل احتواء المأزق المالي، والاقتصادي، الأوروبي اليوم، وأقل من ذلك هم من يحاولون الوقوف على شرفة المستقبل لقراءة عناوين المرحلة المقبلة، واستشراف التحديات الاقتصادية والبيئية الآتية، أقله المتوقع منها خلال العقد المقبل، بغية الاستعداد لها وتهيئة الاستجابات المسبقة المناسبة لكبح جموحها. ولذا فإذا لم يتغير شيء في السياسات الأوروبية الراهنة، وظلت سياسة النعامة المالية والاقتصادية هي القائمة من هنا وحتى ذلك التاريخ، يقول المؤلفون، فإن النتيجة الممكنة الوحيدة المتوقعة هي الوقوع في النهاية في هوة الكارثة الكبرى من جديد. ولذا ففي الجزء الذي تولى إعداده الوزير"كوشيه" يقرع أجراس الإنذار عالية محذراً من سياسات التجاهل والتفاؤل تلك، داعياً إلى الاستعداد منذ الآن للتكيف مع صدمة المستقبل، خاصة في ضوء التوقعات بتراجع حاد محتمل في إنتاج النفط على صعيد عالمي، وهو ما يقتضي إعادة تجديد الاقتصادات الأوروبية، وتحفيز تنافسيتها، وجعلها قادرة على التكيف مع تحولات اقتصاد الموجة الثالثة. هذا في حين يدعو الفيلسوف "ديبي" الأوروبيين إلى أن يغيروا طريقة تفكيرهم في الأزمة، واستطراداً نوع استجابتهم لها، مؤكداً أن عليهم العمل منذ الآن بعقلية أن الكارثة الاقتصادية والبيئية الماحقة محتومة ولا يمكن تفادي وقوعها خلال العقد المقبل، ومن ثم يتعين عليهم أن يعملوا مفترضين في أذهانهم أسوأ السيناريوهات للمستقبل، فإن وقع هذا الأسوأ كانوا جاهزين مقدماً لاحتواء مخاطره، وإن لم يقع فقد احتاطوا وتكيفوا سلفاً مع أصعب السيناريوهات. وفي الجزء من الكتاب الذي أنجزته المؤلفة سوزان جورج تؤكد هي أيضاً أنه من الضروري والعاجل الآن إيجاد نوع من المواءمة والملاءمة بين طبيعة تحديات الاقتصاد وروح استجابات السياسة، ومراعاة الجوانب الاجتماعية والبيئية المترتبة سلباً أو إيجاباً على كل ذلك. هذا في حين يدعو الكاتب "لاتوش" للتفكير في تداعيات السقوط المحتوم للنظام الاقتصادي النيوليبرالي الغربي، على أمل أن يكون البديل عنه هو ظهور مجتمعات الوفرة الاقتصادية، التي تتجاوز مآزق الإنتاج واختلالات التوزيع التي أدت بالنظام الليبرالي المتوحش إلى الاصطدام أخيراً بجدار الكارثة. ولكون هذا الكتاب مؤلفاً مشتركاً بين عدة مؤلفين لكل واحد منهم نظرته ومنهجه وجهازه المفهومي الخاص، فربما يكون ذلك قد حال بينهم وبين الذهاب بتعميماتهم وفروضهم إلى نهاياتها النظرية والمنهجية، وغاياتها الإيديولوجية والسياسية أيضاً. وإن كان الكتاب يقدم مع ذلك، بطريقة منسقة، رؤى نقدية للواقع الاقتصادي الراهن، واستشرافاً للحلول الممكنة القادرة على جعل الاقتصادين الأوروبي والعالمي يواجهان تحديات العقد المقبل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، بقدر من المناعة والقوة أفضل مما وقع لحظة نشوب الأزمة المالية الأخيرة. حسن ولد المختار الكتاب: أين يمضي العالم؟ المؤلفون: مجموعة مؤلفين الناشر: فايار- ميل إي إن نوي تاريخ النشر: 2012