اغتيال المعارض التونسي شكري بلعيد منذ أيام تحوّل خطير في مسار عملية التغيير. تحوّل لا يخدم الثورة والديموقراطية أبداً، بل يفتح الباب أمام المزيد من الانقسامات والضعف واغتيالات أخرى ستعيش البلاد في ظلها وتشعل النار، ولا يصل أحد إلى الحقيقة في متابعة تفاصيلها. وفي معزل عن الجهة التي ارتكبت عملية الاغتيال، والاتهامات التي سيقت، والردود التي تلتها، فإن تونس دخلت مرحلة جديدة من اللااستقرار، بدأت الثورة بإحراق رجل فقير نفسه، لم يستهدف أحداً. قدّم حياته فداء. دفاعاً عن الكرامة، تعبيراً عن الغضب والرفض. وتمسكاً بالحق في العيش الكريم، انطلقت الشرارة، سقط النظام، بدأ التحوّل، فلا يجوز أن يكون تحولاً عن الغاية الأساس، وعن الوفاء لهذا الفقير التونسي، ولا يجوز أن يكون تحولاً في اتجاه الغرق بالدم. تميّزت الثورة بأنها لم تكن مسلحة، لم تكن خسائر بشرية أو مادية في البلاد، فرض الشعب إرادته بسرعة، فلا يجوز أن نصبح اليوم أمام ارتدادات خطيرة لممارسات وتصرفات لا تعبّر عن بعد نظر وخبرة وتجربة في إدارة الشؤون السياسية والعلاقات بين القوى المختلفة. صحيح أن الثورة بحاجة إلى وقت لتستقر على واقع سياسي معين، وأن الرجال الجدد بحاجة إلى خبرة في السياسة والإدارة والتعاطي مع المؤسسات الدولية. ولكن المطروح اليوم ليس هذا. نحن أمام حد أدنى من الوعي مطلوب الالتزام به، حد أدنى من الالتزام بالثوابت والتوافق على حماية التنوّع السياسي في البلاد وعلى إبقاء الديموقراطية الأساس في العمل السياسي. الحرية هي التي أتاحت لقوى التغيير أن تطيح بالنظام، فلا يجوز لأي منها أن يطيح بالحرية طمعاً بسلطة، لا. هذا أمر خطير جداً، ولا يجوز أن يكون منطق الاغتيال هو الذي سيسود في البلاد، بل التوافق هو الذي يجب أن يكون أساس الحكم في هذه المرحلة الانتقالية لا سيما بين القوى الشريكة في إسقاط النظام وحماية تونس والعمل على تغيير واقعها السياسي نحو الأفضل. وفي مصر حالة أخرى خطيرة مواجهات في الشوارع بين القوى الأمنية والمتظاهرين ضد السلطة السياسية وتصريحاتها ومواقفها وقراراتها. مواجهات على أبواب القصر الجمهوري. إحراق مؤسسات لـ«الإخوان المسلمين». عمليات اغتصاب للنساء في الشوارع، استهداف مؤسسات عامة وخاصة. والأخطر من كل ذلك ومع انتشار السلاح في كل مكان، الفتاوى التي تصدر والتي تدعو إلى اغتيال رموز المعارضة. ليس ثمة أسهل من أن يخرج أحدهم ويصدر فتوى لتذهب إلى التنفيذ. ما الفرق بين النظام القديم والديكتاتورية القديمة التي أطيح بها والتي كانت تمارس على مستوى أفراد أو جماعة في إطار نظام وبين ديكتاتوريات فردية في كل حيّ أو قرية أو منطقة يقودها أفراد نصبّوا أنفسهم مرجعيات وأمراء يأمرون وينهون؟ القمع ولّد الانتفاضة، ماذا سيولّد القمع اليوم؟ حسناً فعلت مؤسسة الرئاسة وبعض المراجع برفض هذه الفتاوى والتنصل من أصحابها، والدعوة إلى احترام حقوق الناس وحرياتهم. ومهم جداً أن يكرس هذا النهج. لكن ذلك يجب أن يترافق مع خطوات سياسية رسمية وشعبية ودينية ووطنية تحصن المجتمع المصري في هذا الاتجاه. ثمة أياد كثيرة تعبث بالأمن والوحدة في مصر، وبالتالي هي قادرة على التخريب، وأي اغتيال سيؤدي إلى مزيد من التطرف والعنف وستدخل البلاد في دوامة خطيرة لن تخرج منها في وقت قصير. وستكون ردّة على عملية التغيير التي حصلت، ستفقر مصر، ويجوع شعبها أكثر، وستعّم الفوضى. لن يكون هذا في صالح «الثورة» و«الثوار» الأصليين، أو الذين «سرقوا الثورة» كما يقولون. الكل سيكون مهدداً في مستقبله وأحلامه وحياته. ليس المشهد بأفضل من ذلك في ليبيا، التي يسود فيها حكم ولايات وجماعات تدير شؤون مناطقها بذاتها، كما تقفل ليبيا أبوابها على مواطنين عرب من هنا وهناك لأسباب مختلفة. وتشهد مناطق كثيرة فيها نزاعات مسلحة واغتيالات. وخرج منها كثيرون محمّلين بأسلحة نوعية إلى الخارج في اتجاهات عديدة في أفريقيا... والخطر في اليمن لا يزال قائماً، من دعوات إلى الانفصال، إلى تسليح وتدريب وتهريب سلاح من أكثر من جهة وتدخل من أكثر من دولة واغتيالات وتفجيرات وصراعات دموية هنا وهناك. وفي العراق حالة غليان وتعبئة مذهبية خطيرة، تفجيرات واغتيالات وتهديدات بالإقصاء والإلغاء واستنزاف لطاقات وإمكانات البلد. وفي سوريا، حدّث ولا حرج. صحيح أن النظام ارتاح نسبياً وأن المعارضة تعاني مشاكل، صحيح أن النظام استعاد مواقع على الأرض، وأنه أصبح في موقع المبادر في أكثر من مكان. لكن الصحيح أن الحرب مستمرة، وأن ما يجري من تقدم أو تراجع لهذا الطرف، أو ذاك هو أمر طبيعي في جولات هذه الحرب. وقد عشنا هذه الحالة في لبنان، ما دامت الحرب مستمرة، فهذا يعني أن الخراب والدمار والانقسام والحقد والفقر والتهجير وإضعاف الدولة مستمر ولا يستطيع أحد الادعاء أنه قادر على الحكم والتحكم بمسار الأمور في ظل هذا الواقع المفتوح على كل الاحتمالات، وما يجري في كل هذه المواقع يفرض نفسه على الدول المحيطة التي تعاني حالات قلق على المصير. المستفيد من كل ذلك إسرائيل، ماذا تريد مشهداً أفضل، مما هو أمامنا اليوم؟ عرب يقتلون بعضهم بعضاً. الاغتيالات في كل مكان، سيقول الإسرائيليون «لقد قتل من العرب على أيدي العرب أكثر بكثير مما قتل منهم على أيدينا ويتهموننا به»! «لقد ارتكب العرب مجازر بحق بعضهم أكبر وأخطر مما يتهموننا به»! سيقول الإسرائيليون أيضاً: «لا الأنظمة القديمة كانت ديموقراطية. ولا الحكام الجدد أصبحوا ديموقراطيين. إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في هذه المنطقة، وهي محاطة بمناخ من التطرف والحقد والجهل ومنطق القتل والاغتيال والإرهاب، ومن حقها أن تطالب بكل الضمانات لحمايتها وضمان أمنها واستقرارها»! غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني