تواجه مصر المثقلة الآن بالمشكلات حزمة واسعة من المتاعب الداخلية والخارجية التي قد تحمل تداعيات وانعكاسات سياسية على النظام بالغة التعقيد والصعوبة. وأكثر تلك المتاعب مباشرة، هي الاحتجاجات اليومية العنيفة التي يشارك فيها العلمانيون والليبراليون وغير المسلمين من المصريين، ضد ما يعرف بالنزعة الشمولية الجديدة التي ميزت شهور النظام الحالي الأولى. وكثيراً ما تتم في الوقت الراهن مقارنته بعهد مبارك، الديكتاتور الذي أطيح من الحكم عام 2011 بعد ثلاثين عاماً قضاها في السلطة. ويشير خصوم النظام في معرض انتقادهم لأدائه إلى ما يعتبرونه محاباة واضحة لجماعة "الإخوان المسلمين"، ومحاولات النظام فرض دستور جديد على البلاد، لا يحمي حقوق الأقليات، ولا يحظى بتوافق الأغلبية. ولو كان النظام قادراً على التخفيف من بعض الأعباء اليومية المتكررة التي يئن المصريون تحت وطأتها، والتي تشمل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والبطالة، وانتشار الجريمة، ومشكلات القمامة، وعدم انتظام إمدادات الطاقة الكهربائية؛ لكان من الممكن أن يكون هناك قدر أكبر من الصبر لدى الشعب على أساليبه السياسية. ولكن المعاناة اليومية للمواطن المصري العادي، تتفاقم في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد حالة لا يمكن وصفها بشيء سوى أنها حالة "سقوط حر". ويرجع ذلك إلى تناقص احتياطيات مصر من العملة الأجنبية اللازمة لشراء المواد الغذائية، وشراء إمدادات الطاقة الضرورية. ويمكن القول في هذا السياق، إنه من دون الحصول على حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار تقريباً، ودون الحصول على قروض مماثلة من الدول العربية الخليجية، فإن مصر يمكن أن تواجه خطر الإفلاس، وتصبح غير قادرة على الوفاء بالالتزامات المفروضة عليها. ومن جانبه لن يمنح صندوق النقد الدولي أية قروض جديدة لمصر ما لم تقم بإجراء إصلاحات صعبة للغاية، تشمل رفع معدلات الضرائب، وتخفيض الدعم على السلع الأساسية. والمشكلة أن تلك الإصلاحات الصعبة، تحمل في طياتها مخاطر سياسية كبرى، حيث إنها ستؤدي حتماً إلى مفاقمة الاحتجاجات والسخط، كما قد تؤدي إلى ما هو أكبر من ذلك. ومما يفاقم من أزمة العملة الأجنبية حقيقة أن السياحة والتحويلات الأجنبية اللتين كانتا تمثلان أهم مصادر مصر من النقد الأجنبي قد تقلصتا على نحو دراماتيكي. فالسياحة الأجنبية كانت تتسم بأهمية خاصة في شهور الشتاء على وجه التحديد، ولكن ونظراً للعنف المستمر في الشوارع هذا العام، فقد فضل الكثير من هؤلاء السائحين البقاء بعيداً عن مصدر الخطر. وعلاوة على ذلك فقد الآلاف من المصريين العاملين في المؤسسات والشركات التي تعتمد على صناعة السياحة خصوصاً الفنادق والسفن النيلية مصدر دخلهم، وبات كثيرون منهم غير قادرين بالفعل على الإنفاق على أسرهم. أما بالنسبة للتحويلات الأجنبية، فيكفي أن نعرف أن ما يقرب من مليون ونصف المليون مصري قد عادوا من ليبيا جراء الأحداث التي اقترنت بالثورة الليبية، والتي أدت إلى خروج العدد الأكبر من العمالة الأجنبية في ليبيا. وعودة هذا العدد من المصريين أضاف عبئاً جديداً وكبيراً على مشكلة البطالة المتفاقمة في مصر. ولم تقتصر أضرار عودة هذا العدد على مفاقمة مشكلة البطالة في البلاد فقط، وإنما حرموا خزينتها أيضاً من الكميات الضخمة من النقد الأجنبي التي كانوا يقومون بتحويلها، وخصوصاً أنه من غير المنتظر أن تقوم ليبيا في أي وقت قريب بالاستعانة بعمالة أجنبية بالأعداد الهائلة التي كانت موجودة أيام النظام السابق. والمصدر الثالث من مصادر العملة الأجنبية يأتي من الرسوم المفروضة على عبور السفن في قناة السويس. وهذا المصدر لم يتأثر سلبياً حتى الآن وهو ما يرجع -جزئياً- إلى أن الجيش المصري يحمي المجرى المائي، ويؤمّن الملاحة فيه، علاوة على أن حركة مرور السفن لم تتعرض للتعطيل بفعل أعمال الشغب والاحتجاجات المتكررة التي حدثت في مدن القناة على وجه الخصوص. ومع ذلك، فإن هيئة القناة، وبمرور الوقت، ستضطر لإنفاق أموال طائلة على الصيانة والتطوير، حتى تظل قادرة على المنافسة العالمية، علاوة على أن أية أعمال حربية كبيرة في المنطقة يمكن أن تتسبب في إغلاقها، كما حدث في أعوام 1956، و1976، و1973، عندما كانت مصر تخوض حرباً ضد إسرائيل. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية تواجه حكومة "الإخوان" عدداً من التحديات الخطيرة التي تتهدد الأمن. فمنذ إطاحة نظام مبارك، ضعفت سيطرة المصريين على الحدود مع غزة وإسرائيل، وهو ما أدى إلى زيادة تدفق المهاجرين غير الشرعيين و"الجهاديين" إلى شبه جزيرة سيناء. والعديد من المهاجرين يحاولون الدخول إلى إسرائيل بحثاً عن الملاذ والعمل، ولكن إسرائيل لا ترحب بهم وقامت ببناء جدار عازل يمتد على طول حدودها مع مصر في سيناء للحد من تسلل الإرهابيين والمهاجرين الذين تحولوا إلى مشكلة اجتماعية كبيرة في إسرائيل في الوقت الراهن. وإذا ما شهدت العلاقات بين مصر وإسرائيل مزيداً من التدهور، فإن ذلك يمكن أن تترتب عليه عواقب خطيرة للغاية على أمن المنطقة برمتها، وهو ما سيمثل في هذه الحالة تحدياً مزعجاً للغاية لنظام مصر الذي تكتنفه المصاعب من كل صوب وحدب. وقد لا يكون أي من التهديد الإسرائيلي، أوتهديد الأصولية الإسلامية، هو أهم تهديد يواجه مصر في المستقبل، وإنما الأخطر هو ذلك التهديد الذي يمكن أن يطال حصة مصر المتناقصة من مياه النيل. فمن المعروف أن النيل هو شريان الحياة لمصر ومصدر وجودها ذاتها. وعلى هذا الأساس يتعين على القادة المصريين أن يواجهوا الأزمة البيئية المتنامية مع جيرانهم الجنوبيين، وعلى وجه الخصوص السودان وإثيوبيا، التي تدور في معظمها حول اقتسام مياه النيل الآخذة في التناقص. وعلى هؤلاء القادة أن يعالجوا أيضاً مشكلة خسارة الأرض الزراعية في دلتا النيل بسبب ارتفاع مستوى مياه البحر، وغمرها لمساحات من الأراضي القابلة للزراعة في شمال دلتا مصر كل عام. ولكن، طالما أن المشكلات اليومية المتكررة هي التي تحكم أجندة مصر، فإن الكثير من الوقت والفرص سيضيعان حتماً في مجال معالجة ما يمثل تهديداً وجودياً لمصر، وهو تهديد ذو أبعاد لم تتحدد بعد.