منذ أن خسر الانتخابات الرئاسية لعام 2000 أمام بوش الابن، أصبح آل جور أحد الكتاب الأفضل مبيعاً في العالم، كما شارك في عدد من الأفلام الوثائقية لتتوج مسيرته في النشاط السياسي والبيئي بحصوله على جائزة نوبل للسلام في 2007 لجهوده في الدفاع عن البيئة، والتحذير من مخاطر الاحتباس الحراري. واليوم يطل علينا بكتاب آخر يعود فيه إلى موضوعاته الأثيرة المرتبطة بالتحديات التي يواجهها العالم بعنوان "المستقبل: المحركات الستة للتغير العالمي"، وفيه يتطرق آل جور إلى مجموعة من المحددات التي تسهم في صياغة عالمنا المعاصر وتشكيل المستقبل، فما هي هذه المحددات، أو كما يطلق عليها الكاتب محركات التغيير؟ يوزع المؤلف تلك المحركات على فصول الكتاب الستة، ومن بينها النمو السكاني المنفلت، وإعادة اكتشاف مفاهيم الحياة والموت، والتحديات المرتبطة بالتغيرات السياسية والاجتماعية في علاقتها بالتكنولوجيا، والعولمة، وتنميط الأفكار، وموازين القوى العالمية. ومن خلال هذه المحددات يشرع الكاتب في مناقشة المشاكل التي تحدثها وتأثيرها على مستقبل الأرض، أو الحياة البشرية على سطح الكوكب، فخلافاً للفكرة السائدة التي تجعل من الغازات الدفيئة المسؤولة الوحيدة عن الاختلالات البيئة التي تعرفها الأرض بتسببها في الاحتباس الحراري والظواهر الطبيعية المدمرة، يرى الكاتب أن الأخطر من ذلك حالياً هو الاستهلاك المفرط للموارد، سواء تعلق الأمر بالغابات التي يتم القضاء عليها لتغذية الصناعة، أو المياه التي تستنزف بوتيرة عالية، والسبب كما يقول الكاتب يعود إلى المحدد الأول المتمثل في النمو السكاني المنفلت، وغياب سياسات عالمية للتحكم في هذا النمو الذي يهدد الموارد المحدودة. ولكن الأمر لا يقتصر في نظر الكاتب على الاستغلال غير العقلاني للموارد، بل يمتد إلى السلوكيات البشرية غير المسؤولة. ولا يتردد هنا في الرجوع إلى بعض أفكاره السابقة ووضعها تحت مبضع النقد، إذا تبين له خطؤها والإقرار بذلك مثل اعترافه بأن التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري، من خلال تعلم التعايش مع تداعياتها بدل التخفيف من حدتها، كما دعا إلى ذلك سابقاً، هو ضرب من التقصير، إذ لابد من الجمع بين الاثنين وتبني سياسات تزاوج بين التعايش مع مظاهر الاحتباس الحراري من خلال تهييء السكان للتعامل معه، وبين سياسات أخرى تروم التخفيف من مسبباته، سواء تعلق الأمر بالنشاط الصناعي المفرط، أو غيره. وفيما عدا الجوانب التقنية التي يستفيض الكاتب في توضيحها ينتقل إلى مناقشة العلاقة بين التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم وثورة الاتصالات المتواصلة ببعض الجوانب السياسية والاجتماعية على الصعيد الدولي. فبفضل الشركات متعددة الجنسيات بات العالم مرتبطاً بشبكة استهلاكية موحدة تؤثثها العلامات التجارية المنتشرة في جميع أنحاء العالم ورجال الأعمال الذين لم تعد تعوقهم حدود الدول، وإذا كانت العولمة قد فتحت آفاقاً جديدة أمام المجتمعات النامية لإثبات قدرات أبنائها في مجالات الابتكار والإبداع على غرار الهند، وتفسح المجال أمام تدفق الاستثمارات، إلا أن من تداعياتها السلبية أيضاً التنميط الثقافي وطمس الموروث المحلي لبعض البلدان، سواء كان لغة، أو أنماط العيش المختلفة. وهكذا تحول كوكب الأرض إلى ما يشبه الشركة الكبرى المترابطة التي تحكمها قواعد السوق. ولكن التنميط الاقتصادي والثقافي لم ينسحب على الجانب السياسي، إذ علم تفلح الولايات المتحدة والغرب في التسويق لليبرالية السياسية، على رغم الاختراقات التي حققتها الليبرالية الاقتصادية على الصعيد العالمي، فالصين على سبيل المثال متمسكة برأسمالية الدولة القائمة على شركات كبرى تديرها الحكومة وترسم استراتيجياتها، وهو نظام يشبه إلى حد كبير أيضاً الرأسمالية الروسية التي تتحكم فيها الدولة وتكاد تقتصر على صناعة النفط. ويشير الكاتب إلى دور هذه المتغيرات الطفيف على فكرة الدولة القومية، فالعولمة بقوتها الكاسحة على المستويين الاقتصادي والثقافي لم تنل من الدولة القومية، باعتبارها ركيزة العلاقات الدولية، وما الصراعات التي شهدتها مناطق عديدة في العالم سوى رغبة لتأكيد القوميات الصغيرة والاستناد إليها كوحدة بنيوية في المطالب السياسية والاقتصادية، ولذا، فإن الأمر لا يتعلق بنسف الدولة القومية الكبيرة التي تندرج تحتها قوميات أخرى بقدر ما يتعلق بتوجه نحو الدول المتجانسة قومياً حتى لو كانت صغيرة، أو مجهرية. ويدافع آل جور عن الدولة القومية على رغم صغرها أحياناً، لأنها تظل المخاطب الوحيد في عالم تحكمه قوانين تجارية واقتصادية لابد من جهة للتفاوض معها بشأنها. وفي النهاية يخلص الكاتب إلى أن مستقبل العالم الذي تتوزعه قوى وأفكار الاقتصاد المعولم وقوة الدولة القومية، وغيرها من المحددات ما زال لم يتضح بعد، وما زال خاضعاً لسيرورة الإصلاح السياسي والتغيرات المفاجئة. زهير الكساب الكتاب: المستقبل: المحركات الستة للتغير العالمي المؤلف: آل جور الناشر: راندوم هاوس تاريخ النشر: 2013