تثير الأرقام والإحصائيات المتعلقة بمدى انتشار الأمراض والاضطرابات العقلية والنفسية الكثير من الدهشة، وأحياناً الصدمة، بدرجة تدفعنا للوقوف ومراجعة ما يتم حالياً وصفه باضطراب أو مرض عقلي أو نفسي. فحسب بعض الدراسات، تعتبر الاضطرابات العقلية من أكثر أنواع الأمراض انتشاراً على الإطلاق. وبوجه عام، من المنظور الدولي، حسب منظمة الصحة العالمية، يوجد حالياً أكثر من 450 مليون مصاب باضطراب عقلي، بالإضافة إلى عدد أكبر من ذلك يعانون من مشاكل عقلية أو نفسية. وتشير بعض التقديرات إلى أن واحداً من كل ثلاثة من السكان في غالبية الدول، يشتكي من أعراض نوع واحد على الأقل من أنواع الاضطرابات العقلية خلال رحلة حياته، وهي نسبة تتفاوت بين الدول المختلفة، لتصل أحياناً إلى 46 في المئة -نصف السكان تقريباً- في الولايات المتحدة، وحوالي 17 مليوناً في بريطانيا. ولكن هل من يشعرون بحزن شديد وأسى عميق، بعد فقدانهم لأحد الأحباء أو الأعزاء، ولفترة طويلة ممتدة، هم مرضى نفسيون؟ وهل الجنود الذين تعرضوا لصدمة نفسية أثناء تواجدهم على جبهة القتال، وخوضهم لمعارك طاحنة ودامية، هم مرضى عقليون؟ وهل شعور البعض منا بالخجل والتوتر في المواقف الاجتماعية، أو الشعور بالفتور وعدم المبالاة تجاه وظيفة نكرهها، أو الشعور بالتشاؤم والإحباط إذا ما فقدنا وظائفنا وأصبحنا عاطلين عن العامل، هي أمراض واضطرابات نفسية، تتطلب مراجعة الطبيب، والخضوع للعلاج باستخدام الأدوية والعقاقير الطبية؟ للأسف إجابة هذه الأسئلة غالباً ما تكون بالإيجاب، حسب معايير التشخيص الطبية المستخدمة حالياً. فالحزين على فقدان والديه، أو أحد من أبنائه، هو شخص مصاب بالاكتئاب المرضي؟ والمرأة الخجولة، أو المراهق الذي يعتريه التوتر في وجود جمع غفير، هم أشخاص مصابون باضطراب القلق الشديد، والجندي الذي قتل كثيرين من جنود العدو، وتعرض هو نفسه لاحتمال فقدان حياته في العديد من المواقف، هو شخص يعاني من "منظومة توتر ما بعد الصدمة" التي تترجم أحياناً إلى "اضطراب الكرب التالي للرضة"! فهذه التجارب الإنسانية، والظروف النفسية العارضة، كثيراً ما تصنف وتشخص على أنها أمراض واضطرابات، حسب الكتيب التشخيصي والإحصائي للجمعية الأميركية للطب النفسي الذي يعتبر المرجع الرئيسي للأطباء النفسيين حول العالم، وهذا ربما يفسر الأساس الذي قدرت عليه منظمة الصحة العالمية وجود أكثر من 450 مليون شخص مصابين بأمراض عقلية. وعلى ما يبدو أن الموقف سيزداد سوءاً في ظل تواتر الأخبار بأن الطبعة القادمة من هذا الكتيب، والمقرر نشرها في شهر مايو من العام الجاري، ستخفض من المعايير الضرورية لتشخيص العديد من الأمراض والاضطرابات العقلية، وهو ما سيؤدي إلى زيادة ملحوظة في أعداد من سينعتون بالمرض العقلي أو النفسي. والمقصود بالمعايير هنا، هو النظام المتبع في ضرورة ظهور خمسة أعراض أو علامات على المريض مثلًا، حتى يتم تشخيص إصابته بمرض ما. ولكن حسب الطبعة الجديدة، قد يكفي ظهور أربعة أعراض أو علامات، حتى يتم التشخيص. وهذا التمثيل والشرح، ليسا دقيقين بالشكل الكافي من المنظور العلمي البحت، وإنما استخدمناه هنا فقط لتوضيح معنى خفض معايير التشخيص. فعلى سبيل المثال، سيؤدي خفض معايير التشخيص إلى تصنيف الشعور بهموم الحياة اليومية ومشاكلها بأنه "اضطراب قلق عام". وستصبح نوبات الغضب والانفعال الطفولية أحد الأعراض لاضطراب نفسي، يمكن ترجمته إلى "اختلال المزاج الفوضوي". وحتى الأمراض التي تعاني حالياً بالفعل من شبهة فرط التشخيص، مثل "اضطراب نقص التركيز بين البالغين"، ستزداد أعداد المصابين بها، بمجرد خفض معايير التشخيص، وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى زيادة عدد الوصفات الطبية للعقاقير المنشطة التي تستخدم في العلاج. أضف إلى هذا وذاك، بعض السلوكيات السيئة أو السلبية، مثل النهم الشديد الذي سيشخص منذ الآن فصاعداً على أنه أحد اضطرابات الشهية، أو فرط استخدام الكمبيوتر والإنترنت الذي سيشخص على أنه إدمان، أو تعدد العلاقات الجنسية، الذي سيشخص تحت قسم الإدمان السلوكي على أنه إدمان للجنس. والمشكلة في فرط تشخيص الأمراض النفسية، وبخلاف أن المزيد من الناس سيصمون بأنهم "مرضى عقليون"، هو حقيقة أن علاج هذه النوعية من الأمراض يعتمد في الجزء الأكبر من الحالات على الأدوية والعقاقير الطبية، على رغم عدم وجود الأدلة القاطعة على فعالية تلك العقاقير -كما هو الحال مع مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان- وعلى رغم تسببها في مضاعفات جانبية كثيرة ومهمة. وهذا ربما يتطلب تغيير الفلسفة التي بني عليها الطب النفسي الحديث، من خلال النظر إلى جوانب الحياة البشرية وللتجارب والخبرات النفسية بشكل أكثر إيجابية، ومراعاة الظروف الاجتماعية والإنسانية التي تتوالد فيها المشاعر الطبيعية، قبل توصيفها بأنها أعراض مرضية.