أزمة الشرعية السياسية
أي مراقب موضوعي للمشهد السياسي السائد في مصر الآن لابد له أن يصل إلى نتيجة لا يمكن التشكيك في صحتها، وهي أن النظام السياسي الراهن الذي يتصدره حكم جماعة "الإخوان المسلمين" قد فقد شرعيته السياسية.
ويكفي متابعة أخبار المظاهرات الحاشدة التي خرجت في القاهرة والإسكندرية وعديد من المحافظات منددة بحكم جماعة "الإخوان المسلمين"، لأن قادتها لم يفوا بوعودهم التي أسرفوا في الوعد بها قبل الانتخابات، والتي تمثلت في قيمة سياسية رفيعة هي "مشاركة لا مغالبة"، وتوجه اجتماعي بالغ الأهمية، وهو العمل الجاد لحل المشكلات الجسيمة التي تواجه الجماهير العريضة.
وذلك لأن المسلك الفعلي لجماعة "الإخوان المسلمين" بعد تنصيب رئيس الجمهورية كان ابتعاداً مستمراً عن "المشاركة" وإصراراً على المغالبة المطلقة! وتمثل ذلك أساساً في الانفراد باتخاذ القرارات السياسية الكبرى وإقصاء باقي الأحزاب السياسية المعارضة عن عملية التشاور الضرورية قبل إصدارها، وليس ذلك فقط، ولكن عديداً من هذه القرارات كانت مضادة للأعراف الدستورية، وبعضها كان يمثل اعتداء صارخاً على مبادئ الشرعية السياسية.
وحتى لا يضيع منا الخيط الرئيسي للموضوع الذي أريد أن أطرحه اليوم وهو أن الديمقراطية ليست مجرد آليات تتمثل أساساً في صندوق الانتخابات أياً كانت نتيجتها، وإنما هي أيضاً مجموعة متناسقة من القيم التي لو تم إهدارها فإن نتائج الصندوق تصبح لا قيمة لها.
وأهم قيمة ديمقراطية هي أن يحقق النظام السياسي الشرعية السياسية. والشرعية السياسية -في أبسط تعريفاتها- هي "قبول الأغلبية العظمى من المحكومين لحق الحاكم في أن يحكم، وأن يمارس السلطة، بما في ذلك استخدام القوة". ولو طبقنا هذا التعريف المجمع عليه في علم السياسة، لأدركنا أن النظام السياسي الإخواني -بحكم انفراد جماعة "الإخوان" بالحكم- قد تآكلت شرعيته السياسية بالتدريج.
ونعني بتآكل الشرعية هنا عدم رضا الغالبية العظمى من الجماهير عن حكم "الإخوان المسلمين"، كما تشهد على ذلك المظاهرات الحاشدة التي بلغت ذروتها منذ أيام بإعلان بورسعيد العصيان المدني، بالإضافة إلى دعوات العصيان التي تتردد بقوة في صفوف شباب الثوار وأحزاب المعارضة، احتجاجاً على القرارات المضادة للإرادة الشعبية التي أصدرها النظام ومجلس الشورى.
ولعل أشد الاحتجاجات تعلقت باحتكار "الإخوان" والسلفيين لعضوية لجنة الدستور وانفرادهم بوضعه، وعدم اعتدادهم بالمقترحات التي قدمها أعضاء لا ينتمون إلى الأحزاب الدينية. وأخطر من ذلك كله طرح الدستور على الاستفتاء بدون أن يتاح لجماهير الشعب الاطلاع الوافي على مضمونه، ثم إقراره بعد النتيجة المعلنة وهي 60 في المئة تمثل من قالوا نعم، وهي نسبة متدنية في الأعراف الدستورية وأخطر من ذلك كله منح مجلس الشورى الذي شاب تشكيله عوار قانوني حق التشريع، مما سمح له بتفصيل قانون للانتخابات على "مقاس" جماعة "الإخوان المسلمين" لضمان حصول مرشحيها على الأكثرية، ويتم استبعاد مرشحي المعارضة، مما يؤدي عملاً إلى احتكار العملية التشريعية وهي مسألة بالغة الخطورة لو تمت.
وهناك إجماع في العالم كله على أنه لا ديمقراطية بغير معارضة، وإلا تحول النظام السياسي عملاً إلى نظام شمولي يحكم فيه ويهيمن حزب سياسي واحد مما يهدد الكيان الديمقراطي كله.
وإذا حللنا المشهد السياسي بدقة واعتمدنا على مجموعة من المؤشرات الكمية والكيفية سندرك أن مصر تمر بأزمة عميقة، أخطر مؤشراتها انهيار مؤسسات الدولة، وأبرزها قاطبة الشرطة والقضاء. وحين تضرب الشرطة أو القضاة فذلك مؤشر بالغ الخطورة.
وإضراب الشرطة حين يحدث في ظل أي نظام سياسي فهو أمر جلل لا يجوز التهوين من شأنه. حدث ذلك في التاريخ المصري ثلاث مرات، المرة الأولى في ظل حكم الملك "فاروق" حين أضرب البوليس عام 1946 وهتفوا بسقوط الملك احتجاجاً على سياساته المنحرفة. والمرة الثانية في عهد مبارك حين أضرب جنود الأمن المركزي احتجاجاً على سوء معاملتهم وتدني مرتباتهم وهو حادث كاد أن يؤدي إلى سقوط نظام مبارك لولا تدخل القوات المسلحة. والمرة الثالثة هي إضراب الشرطة في ظل حكومة "الإخوان" والذي ما زال مستمراً حتى الآن، بالرغم من أن وزير الداخلية رضخ لعديد من مطالب أفرادها.
ولو ألقينا على المشهد نظرة أخرى فاحصة لوجدنا المظاهرات الفئوية والإضرابات في كل مكان، بحيث يمكن القول إن عملية الإنتاج قد توقفت، وإن المصالح الحكومية قد اضطربت أحوالها، وإن الأمن أصبح مفتقداً، حيث شاعت جرائم الخطف وسرقة السيارات وحتى القتل في عز النهار بدون رادع قوي.
ومن الأسباب التي أدت إلى تآكل شرعية النظام الإخواني الفشل السياسي الذريع، الذي تجلى في عدم قدرته على إصدار القرارات الحاسمة المدروسة في الوقت المناسب. بل إننا نلاحظ صمتاً غير مفهوم من قبله فيما يتعلق بضرورة مخاطبة الشعب مباشرة لكي يقدم تشخيصه للمشكلات الحادة الراهنة ومقترحاته من أجل مواجهتها في مسعى يهدف إلى تجميع الصفوف السياسية حكومة ومعارضة وفق مبادرة تهدف إلى مواجهة الاحتقان الاجتماعي المتصاعد والانقسام السياسي الحاد.
وفي نفس الوقت يحار الإنسان في سر التشبث برئيس وزراء ثبت فشله في إدارة الأمور ووزارة عاجزة تفتقد إلى الرؤية الواضحة في حل المشكلات.
لقد قررنا أكثر من مرة أن ثورة 25 يناير أدت إلى انفجار سياسي وانفجار اجتماعي في الوقت نفسه.
انفجار سياسي جعل كل الطاقات التي كانت مكبوتة لدى ملايين المصريين تظهر على السطح في شكل مظاهرات ومطالبات فئوية وأحداث عنف سقط فيها مئات الضحايا والمصابين. وانفجار اجتماعي أدى إلى ظهور فيضان من التمرد على السلطة أياً كانت سياسية أو حكومية أو إدارية أو أبوية.
وهذا التمرد المطلق على السلطة هو الجذر الحقيقي لأحداث العنف التي أصبحت هي الطابع السائد لأسلوب الحياة في مصر في الوقت الراهن.
ويساعد على إذكاء هذا العنف الخلط المعيب بين الثورة والفوضى، والعناد الشديد لحكم "الإخوان المسلمين" وعدم استجابته لا للمطالب الشعبية المشروعة ولا لرغبات المعارضة في الإسهام في العملية السياسية وفق المعايير الديمقراطية.
وتظن جماعة "الإخوان المسلمين" أنها لو راوغت بعض الوقت حتى تضمن إجراء انتخابات مجلس النواب والتي تظن أنها ستحصل فيها على الأكثرية، فإنها تكون قد كسبت المعركة مع المعارضة إلى الأبد اعتماداً على نتائج الصندوق.
غير أنه فات قادة "الإخوان المسلمين" أن الصندوق حتى لو لم تشب انتخاباته أي شائبة، لا يمكن له أن تمنع نتائجه سقوط الشرعية السياسية للنظام، والتي تعني بكل بساطة عدم رضا الأغلبية العظمى للجماهير عن توجهاته.
أتوقع بطبيعة الأحوال ممن يخدعون أنفسهم وينكرون الواقع الملموس في الشارع أن يختلفوا مع هذه النتيجة الصادمة، ويظنون وهماً أن حكم "الإخوان" سيستمر إلى الأبد حتى ولو كره الكارهون!