الحرب العالمية... صفحات منسية
ليس بول كنيدي من نمط المؤلفين العاديين، الذين يمكن أن يترددوا في تقديم وصف عام للأحوال دون الخوض في التفاصيل. فهو أستاذ ذائع الصيت، يدرس مساقاً شهيراً في جامعة "ييل" يطلق عليه اسم "دراسات في الاستراتيجيات الكبرى"، وكانت بداية ظهوره في الحقل الأكاديمي وحقل التأليف منذ خمسة وعشرين عاماً، عندما نشر كتابه الشهير "صعود وسقوط القوى العظمى" الذي ذهب فيه إلى أن الإمبراطوريات تتهاوى، عندما تصبح محملة بالتزامات تفوق طاقتها، وتعاني من الظاهرة المعروفة بـ"فرط التمدد الإمبراطوري". وقد نظر للكتاب آنذاك، باعتباره صرخة تحذير للولايات المتحدة التي كانت تمر في ذلك الوقت بإحدى فترات الأفول الدورية التي تتعرض لها من حين لآخر. ولكن مع سقوط الاتحاد السوفييتي، وبروز أميركا كقوى عظمى وحيدة في عقد التسعينيات من القرن الماضي، بدت آراء بول كنيدي رؤيوية.
أما اليوم، حيث يورط الأميركيون أنفسهم بشكل أعمق، يوماً بعد يوم، في شبكة الديون، فإن تلك الرؤية تثبت، على رغم أي شيء، قدرة كنيدي الفذة على التنبؤ بالمستقبل. والعنوان الفرعي لكتابه الذي نقرؤه هنا: "حلالو المشكلات الذين غيروا مجرى الحرب العالمية الثانية" يوحي بشكل واضح بأن العمل مخصص للحديث عن المفكرين المجهولين الذين شرّحوا المشكلات العميقة الكثيرة التي واجهت جهد الحلفاء الحربي، وتخيلوا كيف يمكن حلها.
ومن خلال خطوط عريضة، يقدم كنيدي للقراء بعض القصص المقنعة التي يمكن أن تفي بالوعد الذي يوحي به العنوان. وفي الحقيقة أن أي قارئ راغب في معرفة المسار الذي اتخذته الحرب العالمية الثانية، سيجد الكثير من الرؤى المعمقة في هذا الكتاب المكون من 436 صفحة الذي يحتوى على تحليل شامل للحملات العسكرية للحلفاء في أوروبا، وشمال أفريقيا، والمحيط الهادئ.
ويخصص كنيدي جزءاً كبيراً من كتابه للحديث عن الأهمية الحيوية للأشخاص، والعمليات في تنفيذ الاستراتيجية الكبرى، ولذلك يبدأ بالتركيز على الـ18 شهرا التي سبقت يوم إعلان الحرب من جانب الولايات المتحدة في يونيو 1944. ومعظم المؤرخين يفترضون أنه بمجرد أن اجتمع قادة الحلفاء في الدار البيضاء في المغرب في يناير 1943، وحددوا هدفهم من غزو أوروبا في هزيمة ألمانيا وإيطاليا واليابان وإجبارها على الاستسلام، فإن النصر بات مسألة وقت، لأن القوة المادية التي تتمتع بها الولايات المتحدة ستتمكن من استنزاف قوى جميع الأعداء وإجبارهم على الاستسلام.
ولكن لم يكن الوضع على هذا النحو، كما لم يكن ذلك حتمياً بالضرورة -كما يقول كنيدي. ويقدم كنيدي في سياق ذلك تصويراً ممتعاً، ومتنوعاً للعبقرية، والإصرار اللذين ميزا حفنة صغيرة من الرجال الذين صنعوا الفارق. وفي ذلك الوقت كانت الغواصات الألمانية تحقق نجاحات باهرة، وتلحق خسائر فادحة بالقوافل البحرية للحلفاء الذين عجزوا عن مواجهتها حتى بعد أن فكوا الشفرة الألمانية. وكان الابتكار والإبداع هو الشيء المطلوب في ذلك الوقت، وجاء ذلك على يد مهندس عبقري، خطرت له فكرة استبدال مخزن القنابل في طائرات الحلفاء من نوع "بي-24" بخزان وقود إضافي، ما أدى إلى زيادة مدى طيران كافة طائرات الحلفاء التي كانت توفر الغطاء الجوي للقوات والغواصات. كما اخترع مهندس آخر طوربيداً يتجه إلى هدفه من تلقاء ذاته مهتدياً بالأصوات الصادرة عن محركات السفن والغواصات. غير أن الابتكار والعبقرية لم يقتصرا على الأفراد، بل شمل وحدات بأكملها مثل الوحدة البحرية البريطانية الصغيرة المعروفة باسم "إدارة تطوير الأسلحة المتنوعة" التي نجح مهندسوها في ابتكار قاذف قنابل أطلقوا عليه "القنفذ" تمكن من إغراق خمسين غواصة ألمانية بحلول نهاية الحرب.
وعلاوة على ذلك، مثلت صناعة قاذفة استراتيجية بعيدة المدى قادرة على تدمير أهداف العدو العسكرية والصناعية، وتحطيم روحه المعنوية، أسلوباً فعالاً للغاية لإلحاق الهزيمة بألمانيا النازية.
وينهي كنيدي كتابه بالقول إن العدو -اليابان وإيطاليا على وجه الخصوص- كان أقل دهاء وابتكاراً، وإن الثقافة والقوة المادية هي التي لعبت في النهاية دوراً غاية في الأهمية في انتصار الحلفاء. وعلى رغم أن كنيدي لا يعقد مقارنة بين ما حدث في ذلك الوقت، وما يحدث في عالم اليوم، فإن معظمنا وخصوصاً من قرأوا كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى" قد لا يجدون أية مشكلة في قراءة ما بين السطور، وهو أن الأمم التي تفشل في تشجيع الابتكار والعبقرية سيكون مآلها السقوط في نهاية المطاف.
سعيد كامل
الكتاب: مهندسو النصر: حلالو المشكلات الذين حولوا مجرى الحرب العالمية الثانية
المؤلف: بول كنيدي
الناشر: راندوم هاوس
تاريخ النشر: 2012