أدرك أن الكتابة عن مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وواتس أب وغيرها) في هذه الأيام، إذا لم تكن تضخيماً لدورها إيجابياً أو سلبياً، فلن تمثل إضافة جاذبة لدى بعض القراء. لكن هذه المقالة قد تثير اهتمام آخرين أو هواجسهم، خاصة الآباء وبعض المهتمين بمراقبة سلوكيات الناس، وهو سلوك موجود ومتعارف عليه، خاصة أن هذه الوسيلة باتت اليوم الأكثر أماناً والأكثر خطراً في الوقت نفسه. لقد تزايد الحديث عن وسائل التواصل الاجتماعي، مؤخراً، بشكل ملفت للنظر. وقد تعوَّد الناس عندنا، وهي عادة غير جيدة حسبما أعتقد، أن تذهب أفكارهم وأذهانهم إلى أن كل ما هو جديد سلبي بالضرورة، على اعتبار أنه قد يدمِّر المجتمع، ومن ثم فإن الاتجاه نحو المنع أو الرقابة هو الطريقة المثلى للتعامل معه. و«فيسبوك»، تحديداً، أصبح اليوم أحد عناوين المرحلة التي نعيشها، ربما نتيجة للدور الذي لعبه في تغيير المجتمعات، أو كونه الأشهر والأكثر انتشاراً، وبالتالي فإن من المفيد التطرق إلى بعض جوانبه، خاصة بعد دراسة مهمة نشرتها جريدة «الاتحاد» مؤخراً، وأُجريت في الولايات المتحدة. وفقاً للدراسة، فإن نحو 92 في المئة من الآباء هم أصدقاء لأبنائهم في «فيسبوك»، بارتفاع ملحوظ عن دراسة سابقة أجريت عام 2010. وفي المقابل فإن نحو 30 في المئة من الأبناء يريدون حذف الآباء الذين يرى الأبناء فيهم «جواسيس اجتماعيين»؛ لأنهم لا يرغبون في أن يعرف آباؤهم مع من يتواصلون. ومن المفارقات أن يتزامن نشر هذه الدراسة في جريدة «الاتحاد» مع كشف صحيفة «الشرق الأوسط» عن ملفات تخص تجسس النظام الليبي على بعض المسؤولين الليبيين، ولعل هذا التزامن هو ما أثار في ذهني فكرة الارتباط بين خوف الآباء على أبنائهم، ومحاولات الأجهزة الأمنية تتبع مواقع التواصل الاجتماعي ومراقبتها. أغلب الظن أن كثيرين لا يذكرون أن القذافي لعن «فيسبوك» ومستخدميه علانية، وحينها أُخذ الأمر على محمل التهكم غير أننا إذا تناولنا هذا التعليق بوصفه تعبيراً عن عجز نظام تعوَّد على مراقبة الناس والسيطرة عليهم بالأساليب التقليدية، واضطرابه إزاء التعامل مع القادم الجديد، لوجدنا أن لعنات القذافي في محلها، وأن طبيعة الوسيلة الجديدة وأساليب استخدامها تقف وراء نوعية النتائج التي تمخضت عنها. لقد ظلت الصورة النمطية لوسائل التواصل الاجتماعي في كثير من المجتمعات العربية مرتبطة بكون هذه الوسائل دخيلاً يخرِّب الأشياء الجميلة ويمزِّق الروابط الحقيقية بين الناس، وحتى بين الدول والجماعات. وخصص كثير من المحطات التلفزيونية ووسائل الإعلام المختلفة برامج وموضوعات ومقالات لم يكن لها من هدف سوى تخويف الآباء والأبناء من العواقب السلبية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وما ينجم عنها من مشكلات. ولا جدال في أن شعوراً بالشك والريبة إزاء «فيسبوك» موجودٌ لدى الأجهزة الأمنية في العالم، شأنها شأن أولياء الأمور. وعلى الرغم من أن الدوافع والأهداف مختلفة بين الجانبين، فإن حالة الترقب ومتابعة ما يُنشر تمثل قاسماً مشتركاً. نحن جميعاً نتابع وسائل التواصل الاجتماعي، لكن سلوك المراقبة منتشر بكثرة من جانب جهات مختلفة. والحقيقة أن التوجه العام نحو «إدانة»، «فيسبوك» و«شيطنته» يمنعنا من النظر إليه بإيجابية، وبالتالي بتنا نطمس الجوانب الإيجابية فيه، مما يجعلنا دائمي القلق، ويولد لدينا شعوراً بضرورة التوقف عن استخدامه. إذا رجعنا إلى تفاصيل الدراسة، سنجد أن التجسس من جانب الآباء قد استمر لفترة زمنية تراوح بين سنتين وثلاث سنوات. وعلى الرغم من إدراك الأبناء أن آباءهم يراقبونهم، فقد واصلوا نشاطهم المعتاد. وكنت أتمنى أن يُسأل الأبناء عما إذا كانوا يجدون متعة في الهروب من مراقبة الآباء والاستمرار مدفوعين بلذة الخوض في «الممنوع»، وما إذا كانوا يبتكرون طرقاً وحيلاً تتيح لهم التغلب على كمائن الرقيب ومناوراته، أو يفاجئون الآباء ببالونات اختبار بهدف إزعاجهم وتضليلهم. الفكرة هنا أننا في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي بوجه خاص، يتعين أن ندرك أن المرحلة الجديدة يجب أن تُدار بوسائل جديدة. نحن بحاجة إلى عقلية تستطيع مجاراة حاجات الجيل الجديد، ومعرفة الوسائل الجديدة التي أصبحت جزءاً من حياته، وليس معاداتها أو استخدامها بهدف مراقبته، غير مدركين لطبيعة التغيرات الحاصلة، وأن هناك عوامل مجتمعية جديدة تخلق أفكاراً وأنماط سلوك جديدة، وطرقاً للتفكير تختلف عما اعتدناه. المسألة أيضاً ليست مجرد أعمار واختلاف أجيال، بقدر ما هي قضية أفكار ومواقف. فهناك أشخاص أصغر عمراً يخاصمون كل ما هو جديد، ولا تواكب أفكارهم الزمن الذي يعيشونه. ومن الضروري أن نعرف أن رفض وسائل الاتصال الجديدة لا يحل مشكلة، بعد أنها أصبحت أسلوب حياة لا يمكن تعطيله أو تأجيله. ومن يغفلون فهم هذه الحقيقة يعزلون أنفسهم. التركيز على نتائج سلبية فقط لوسائل التواصل الاجتماعي سواء من جانب الآباء أو غيرهم، يُعدُّ رفضاً للعالم «الحقيقي» وليس الافتراضي كما نحب أن نسميه. وهو عالم يمكنه التغلب على كل أدوات المراقبة المتوهَّمة، فمستخدموه من الأبناء على الدوام أكثر ذكاء وقدرة على استخدام تقنياته في المراوغة والهرب والتضليل إذا أرادوا ذلك. وبدلاً من ممارسة هذه المراقبة يجب أن نفكر في الطريقة التي تجعل من وسائل التواصل الجديدة قوة لبناء الفرد والمجتمع، وتوجيه المعرفة التي اكتسبها الأبناء وجهة إيجابية مفيدة. منذ ظهور الإنترنت بدا أن هناك متغيراً جديداً في التعامل المجتمعي، وأنه سيمثل تحدياً كبيراً لمن يريدون مراقبة السلوكيات وليس تصحيحها وتوجيهها، لذا فإن وسائل الاختراق والتهرب نشطت بشكل أكبر. كما أن هناك إجماعاً على أنه مثلما كان لهذه الوسائل بعض التأثيرات السلبية، فقد كان لها تأثيرات وأدوار إيجابية كبيرة في تسهيل التواصل بين شعوب العالم، ونقل حياة الإنسان من مرحلة إلى أخرى أفضل. وفي هذا الإطار، أصبحت «جمهورية فيسبوك» أكبر جمهورية يعيش فيها الناس دون حدود جغرافية، ويتشاطرون الهموم والآراء والأفكار، ولا يمكن بتاتاً اعتبارها جمهورية «افتراضية»، لأن ما يتم فيها «واقعياً» يجعلها أكبر من ذلك بكثير. محمد خلفان الصوافي sowafi@hotmail.com