لم يفلح المشروع الأميركي غير الواضح المعالم للإصلاح السياسي في الشرق الأوسط، والذي بدأت الإدارة الأميركية تتراجع عنه، في أن يكون نموذجاً مرضياً لأحد. ولم يقل عنه فشلاً النموذج العراقي، الذي كانت الولايات المتحدة تقول إنه سيصبح مثالاً يحتذى في المنطقة، فهل تعتقد الولايات المتحدة أنه من بين الحطام والخراب والفوضى العراقية سيبرز نموذج للديمقراطية تتعلم منه دول الشرق الأوسط؟ بالطبع لن يكون هذا الوضع الفوضوي، الذي أوصلته العبقرية الأميركية إلى حافة الحرب الأهلية، نموذجاً للديمقراطية في المنطقة.
كذلك يجب أن نشير إلى أن مسألة المشاركة السياسية والمحاسبة وحكم القانون عملية شبه مستحيلة في دول الخليج، وأن النقلة الديمقراطية موضوع غير متداول ما دامت معدلات إنتاج النفط عالية، والأغلبية تكتفي بالمنزل والوظيفة وبعض الامتيازات الأخرى، الأمر الذي يجعل المشاركة السياسية والإصلاح مفاهيم غير معروفة لدى العامة.
ولكن الإصلاح السياسي في الخليج يجب ألا يكون من منطلق أميركي أو من نموذج عراقي، ويجب ألا يكون كالنموذج الغربي للديمقراطية. المطلوب هو نظام يتناسب مع خصوصية الوضع الخليجي، حتى يحرر الإدارة الحكومية على الأقل من الفساد والفوضى والرشوة والمحسوبية وغيرها من الأمراض السياسية والإدارية. لذا رأيت هنا أن أخبركم عن المفهوم الخليجي للإصلاح.
إذا كان المعنى العام للإصلاح يعني التغيير والمحاسبة السياسية والتنمية السياسية والأداء الأفضل، وغيرها من الإصلاحات الإدارية المضادة للرشوة والفساد، وتعيين المرأة المناسبة أو الرجل المناسب في المكان المناسب، فإن معظم الساسة الخليجيين قد أعادوا تفسير الإصلاح، واستخدموا مفاهيم وأنماطاً تنتمي إلى القرون الوسطى، وتسيطر عليها الروابط العائلية والعلاقات الشخصية في استقطاب الموظفين للإدارات المختلفة. لذا أقترح على أهل الخليج نسيان كلمات إصلاح ومشاركة سياسية، والتعامل مع أمور أبسط مثل "شخصنة الوظيفة" وجر العائلة من المنزل إلى مقر العمل. فالعمل الحكومي الخليجي أصبح على طريقة الأغنية الأميركية الشهيرة (we are family)، وصارت الإدارة الحكومية هي العائلة. وأصبح طبيعياً تماماً أن يقوم وزير بتعيين أخيه مسؤولاً عن الأوقاف، ووزير آخر يعين أخاه وزيراً، وأحياناً تجد أباً يعين ابنه وكيل وزارة خوفاً من ضياع مستقبله، أو خالاً يعين ابن أخته العزيزة وكيلاً مساعداً، أو وزيراً يعين زوجة صديقه الحميم وكيل وزارة، أو مدير إدارة يعين شقيق زوجته الجديدة مديراً للشؤون المالية والإدارية.
هذا إضافة إلى دور زوجات الوزراء والمديرين والمسؤولين في تعيين إخوانهن وأخواتهن وصديقاتهن في مناصب مرموقة في وزارات أزواجهن طبعاً، هذا إضافة إلى استخدام موارد الدائرة أو الوزارة من سيارات، وفراشين وموظفين، ··· إلخ، وهذا شيء طبيعي، لأن الوزارة هي البيت والبيت هو الوزارة. هذا الخراب الإداري مستمر ومقبول في بعض مجتمعاتنا الخليجية، فالحديث إذاً عن الإصلاح السياسي مسألة بعيدة ومعقدة، لأننا لا زلنا في مرحلة "الوزارة هي البيت" و"النظام هو العائلة:".
هذا هو الجزء الأول من ظاهرة الخراب الإداري والسياسي في الخليج، والذي أطلقت عليه "الوزارة العائلة". أما الجزء الثاني فهو المرض المزمن النابع من الجانب المظلم من الحياة السياسية العربية عموماً والخليجية على وجه الخصوص. وفي اعتقادي أن هذا الجانب هو السبب الرئيسي في التخلف السياسي والإداري في معظم دول الخليج، والقضاء على أي شكل من أشكال التنمية السياسية. هذا الشكل يقوم على مقولة محلية: "أمسك مجنونك لا يجيلك أجن منه"، بمعنى آخر اترك هؤلاء المسؤولين أكبر فترة ممكنة ولا تقم بتغييرهم، فإن كانوا سيئين فأنت على الأقل تعرف مساوئهم، وإذا كانوا لصوصاً فإنهم بالتأكيد شبعوا واكتفوا، فلماذا تأتي بمسؤول جديد ليسرق ويرتشي من جديد؟ ومن هنا تجد أن المسؤولين والموظفين الحكوميين لا يتغيرون.
هل يعقل أن يستمر وزير في المنصب نفسه لمدة 30 عاماً، أو وكيل وزارة لمدة 25 عاماً، لماذا؟!! هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى تتكرر أسماء أشخاص من العائلة نفسها، وكأنهم "مركز الثقة العام في المجتمع". بالطبع يصبح المؤهل، والخبرة، والقدرات، والإبداع، والفهم، والأخلاق، أمورا ثانوية في نظام (الوزارة العائلة)، المهم أن تكون من العائلة. أما مؤهلاتك أو قدراتك فهي قضايا بسيطة يمكن التغلب عليها وسط الجو العائلي الوزاري البهيج.
حتى في المجالات غير السياسية تنتشر الثقافة نفسها والقواعد ذاتها. ففي المجال الرياضي مثلاً، تجد أن الأسماء تتكرر منذ السبعينيات من القرن الماضي، والخبراء هم أنفسهم، على الرغم من أنه ليس لدينا عباقرة كرويون في تاريخنا مثل فرانس بكنباور أو الجوهرة السوداء بيليه، أو حتى منتخبات كان لها تاريخ في بطولات عالمية. ومع هذا نجد أن رؤساء الأندية والشخصيات الرياضية والعاملين في مجال الرياضة ما زالوا موجودين منذ أيام الشورتات القصيرة، وحتى اليوم