تاريخ العمل الحزبي في العالم العربي لا يسر إجمالاً وإن غُرِّرَ بالبعضِ وركب الموجة حتى نزل وقع "الربيع العربي" على قلب هذا البعض كوقع الصاعقة. فالمنطقة العربية لم تكن يوماً ما بيئة مهيأة لإنبات زرع الأحزاب فيها، خاصة أن بذورها المستوردة لم تكن صالحة لإنتاج ثمار يانعة، كما هو الحال في الدول الغربية، أو حتى الفضاء الآسيوي. فبعض الدول العربية التي مارست الحكم عن طريق الحزب الأوحد، سواء سمي بالبعث كالعراق وسوريا، أو بالحزب الوطني، كمصر أو غيرها من الدول باختلاف المسميات، فهي اليوم شاهدة على العصر الذي كان يراد له أن يكون ذهبياً أو تحديثياً وتقدمياً، إلا أن الحصاد جاء عكس كل التوقعات المستقبلية، حتى أن ماضي ما قبل الأحزاب في العالم العربي يشاد به الآن عند المقارنة بين عصر أو زمن ما بعد الأحزاب، أو ما قبلها. وأخطر وأشنع ما قامت به الأحزاب الحاكمة في بعض الدول العربية أنها سلبت الدولة بكل مكوناتها وحولتها إلى ملكية حصرية للحزب أفراداً ومؤسسات، ومن ثم ذاب الوطن بكل مقدراته في الحزب الحاكم بـ"أمر الله" أو "أمر غيره"، وليس العكس، كما نعهده في الدول الديمقراطية المعروفة منذ قرون، حيث الأحزاب الحاكمة والتي تتداول السلطة بعد كل فترة رئاسية دستورية، تضع المصلحة العليا للوطن فوق كل المصالح الحزبية الضيقة، وإن شم أفراد الشعب رائحة المصلحية الذاتية طاغية على مصلحة الدولة أو الوطن، فإن صناديق الاقتراع تعيد البوصلة إلى اتجاهها الصحيح في فترة زمنية قصيرة، بحيث لا تنتظر عقوداً تلو أخرى حتى يتحقق ذلك كما هو الحال في بعض الأحزاب العربية التي دمرت بلدانها ولاتزال مواصلة حكمها المطلق، وفق مفهومها في استمرار سلطة الحزب على الشعب، وإن خربت الدولة ودمرت. فضلاً عن تدمير مصالح كل من لا ينتمي، أو ينضم إلى الحزب الحاكم، فيعد عدواً للحزب ومن ثم خائناً ومرتكباً أعظم الجرائم التي يجب أن يصدر عليه أقصى وأقسى العقوبات الممكنة، بعد أن يصدق أو يصفق الحزبيون عليها في غمضة عين. ويحدث كل ذلك باسم التنمية غير المرئية إلا في لوائح الحزب، أما في الواقع، فهو تجيير بوصلة الاهتمام بالتنمية الحقيقية للوطن إلى صراعات فكرية أدت إلى عرقلة كل المشاريع الكبرى، سواء كانت اتحاداً عربياً، أو وحدة ضيقة بين دولتين أو ثلاث أو حتى سوقاً مشتركة تسهم في تحسين الوضع الاقتصادي للفرد العربي أياً كان موقعه. وبعد مضي عقود، أدخل البعض على ظاهر حكمه مساحيق الجمال على بعض إجراءات الأنظمة الحزبية لإقناع الشعوب بأنها تمارس الديمقراطية، والتي تبين اليوم بأن هذا الإطار الديمقراطي الذي استخدم للتزيين كان معطوباً من الأصل وبحاجة إلى تبديل كلي وليس الترقيع الجزئي الذي لمحناه بعد سقوط بعض الأنظمة العربية، وجاءت البدائل منذ البداية أيضاً في إطار آخر مخروم من أكثر من زاوية فاتسع الخرق الديمقراطي أكثر وأكثر. ماذا يريد الحزب الذي يقفز على ثوابت الوطن ويبحث له عن وطن للحزب ومن نسج الخيال ويدير ظهره عن كل إنجازات الوطن الأكبر وهو الأصل؟ فالأحزاب التي تولت السلطة في بلدانها لم تقدم لأوطانها مشاريع تسهم في انتشالها من وهدة المشاكل التي تفاقمت فيها، والتي تحولت إلى ثورات وانتفاضات وحراك تطالب الشعوب التي تضررت من حكمها بلقمة العيش وقدر يسير من العدالة والكرامة التي أهدرت والثروات التي كدست في خزائن أصحاب المصالح الحزبية في بلدانها التي غدت جزءاً من ابتلائها.