يختص علم التغذية في أبسط تعريفاته بالعلاقة بين ما نتناوله من أطعمة ومشروبات، وبين حالتنا الصحية وما قد يصيبنا من أمراض. ويعتمد هذا العلم في شكله الحديث على فكرة أساسية، مفادها أن الوصول إلى حالة من التوازن المثالي في ما نتناوله من مغذيات (Nutrients) من خلال طعامنا اليومي، من شأنه أن يساعد أعضاءنا وأجهزتنا الداخلية على تأدية وظائفها بأكبر قدر من الكفاءة والفعالية. هذا المفهوم يعتبر نقلة كبيرة عما كان الحال عليه قبل عقود قليلة مضت، فحتى عقد الستينيات كان الأطباء يؤكدون لمرضاهم أنه لا توجد أية علاقة بين ما يتناولونه من طعام وبين حالتهم الصحية أو المرضية. أي أنه خلال أربعة عقود فقط، تحول الغذاء من موضوع غير جدير بالاهتمام والدراسة في الأوساط الطبية، إلى إحدى أهم النقاط المؤثرة في توفير أفضل رعاية صحية ممكنة للمرضى والأصحاء على حد سواء. هذه المكانة والأهمية المتزايدة لعلم الغذاء، أشرق فجرها مع بداية اكتشاف دور الفيتامينات في مطلع القرن الماضي من قبل "فريدريك هوبكنز"، وهي الاكتشافات التي جعلت الملكة البريطانية تمنحه لقب فارس، ونال عنها جائزة "نوبل" للطب عام 1929. تلا ذلك عبر العقود الأولى من القرن العشرين، فهم أكبر وأعمق لطبيعة ودور كل من البروتينات والكربوهيدرات والفيتامينات والمعادن، إلى درجة جعلت الكثيرين يؤمنون بأن الإنسان قد أحاط علماً ومعرفة بالغذاء ومكوناته وتأثيراته. وساد وقتها اعتقاد خاطئ بأن الغذاء هو مجرد وقود للجسد، يكفي ببساطة أن نحصل على كميات مناسبة منه يومياً كي نستمر في الحياة. ولكن بتسارع الاكتشافات في هذا المجال، وخصوصاً في ما يتعلق بأهمية الألياف كجزء ضروري من الغذاء الصحي على الرغم من أن الجسم البشري غير قادر على هضمها من الأساس، تراجع وتوارى مفهوم الغذاء كمجرد وقود، واحتل مكانه شعور عام بوجود فراغات هائلة في فهمنا للغذاء وعلاقته بالصحة والمرض.
فعلى سبيل المثال أصبحنا حالياً ندرك أهمية وجود ما يعرف بالـ"فيتوكميكالز" (Phytochemicals) - مواد كيمائية موجودة بالنباتات- في غذائنا اليومي. هذه المواد وعددها بالآلاف يلعب كل منها دوراً حيوياً في قدرة أعضائنا وأجسادنا على تأدية وظائفها بشكل سليم. هذا بالإضافة ربما إلى آلاف أخرى من نفس تلك المجموعة، يؤمن العلماء والمتخصصون بأنها موجودة بالنباتات، ولكن لم يتم التعرف عليها بعد وإن كان يعتقد أنها تلعب نفس الدور الحيوي في الصحة والمرض. وهناك أيضاً مجموعة من الإنزيمات، التي تشكل جزءاً مهماً من التغذية السليمة، وهي عبارة عن مواد تنظم وتنشط العمليات الكيميائية الحيوية داخل الجسم، ونحصل عليها إما من خلال طعامنا اليومي أو ننتجها ذاتياً داخل جهازنا الهضمي. أما آخر العناصر الغذائية التي زاد مؤخراً فهمنا لدورها ووظائفها، فهي مجموعة مضادات الأكسدة (Antioxidents). ويعتمد عمل هذه المجموعة على ثلاث حقائق أو بالأحرى نظريات رئيسية، الأولى هي أن العمليات الطبيعية تنتج أيونات حرة، والثانية أن تلك الأيونات تسبب ضرراً لخلايا وأنسجة الجسم، والثالثة أن زيادة كميات مضادات الأكسدة من شأنها أن تمتص تلك الأيونات الحرة وتمنع الضرر الحادث من وجودها. هذه الادعاءات لها أساسها العلمي إلى حد ما، فبالفعل تتسبب العمليات الكيميائية الطبيعية داخل الخلايا والأنسجة في إنتاج كميات كبيرة من الأيونات الحرة. وهذه الأيونات يمكن أن تكون مفيدة، كما في حالة محاربة العدوى بالجراثيم والميكروبات، أو قد تكون مضرة حينما تتسبب في تلف داخلي. وبالنسبة للشق الأخير، يصبح من المنطقي محاولة وقف هذا الضرر الكيميائي الداخلي، من خلال مواد لها القدرة على امتصاص تلك الأيونات الحرة ومنعها من الاتحاد بالمركبات الأخرى داخل الجسم مثل مضادات الأكسدة. وأشهر أعضاء هذه المجموعة هي فيتامين (A) وفيتامين (C) وفيتامين (E) وعنصر السيلنيوم (Selenium). ولم تقتصر زيادة فهمنا لمكونات الغذاء البشري على طبيعة تركيبها الكيميائي ودورها الحيوي، بل أيضاً على أهمية التوازن فيما بينها مع بعضها بعضاً في تحقيق التوازن الداخلي. فمثلاً التوازن بين الأحماض الدهنية الأساسية (Linoleic and Linolenic)، تثبت أهميته الشديدة في الحفاظ على صحة جيدة. وذلك من خلال زيوت أوميجا-3 وأوميجا-6، مع ضرورة التقليل من الدهون المشبعة والمُهَدْرجة في طعامنا اليومي، وتفيد نتائج أحدث الدراسات أن المجموعة الكيميائية المعروفة بالـ"الفيتو-إستروجين" (phytoestrogen) والموجودة بشكل طبيعي في غذائنا، يمكنها أن تقينا من الإصابة بالمنظومة الأيضية (metabolic syndrome) وتنظيم مستوى الكوليسترول في الدم والحفاظ على كثافة العظام والوقاية من تعرضها للهشاشة. ومن ضمن نطاق الاكتشافات التي غيرت مفهومنا للطعام وكيفية تعامل الجسم معه، الحقيقة التي أصبحت معروفة حالياً بأن جهازنا الهضمي يحتوي على أنواع وأعداد من البكتيريا الضرورية لقيام الجهاز الهضمي بوظائفه، والتي تتأثر سلباً وإيجاباً بما نتناوله من طعا