إذا كان المناخ الفكري الذي ظهر فيه "مارتن لوثر" كرائد ومتزعم للإصلاح الديني في أوروبا القرن السادس عشر، مناخاً متأثراً إلى حد بعيد بالموروث العربي، الديني منه والفلسفي، فإن المراجع المتوافرة لا تسعفنا بأي شيء حول ما إذا كان "لوثر" نفسه قد تأثر بهذا الموروث. وأما أن يكون "لوثر" على علم بموقف القرآن وموقف فلاسفة الإسلام من الإنسان فهذا ما يصعب الشك فيه. فترجمة القرآن تمت في أوائل القرن الثاني عشر وليس من المعقول أن يكون لوثر الذي عاش ما بين 1483-1546 في منأى عن تأثير الموروث العربي، الديني والفلسفي، الذي كان قد مضى على انتشاره في الأوساط المثقفة في أوروبا ما يزيد على ثلاثة قرون. ومع ذلك فلا يليق بنا أن نجعل من فرضية تدور في أذهاننا حقيقة تاريخية.
إن الحقيقة التاريخية التي يبرزها المؤرخون الأوروبيون هي أن الظروف المحلية، السياسية والاقتصادية والدينية والنفسية، التي عاشتها أوروبا في القرن السادس عشر، وقبله، هي التي كانت وراء دعوة "مارتن لوثر" الإصلاحية ونجاح هذه الدعوة. في هذا الإطار يذكر بعضهم المعطيات الأربعة التالية:
1- سيادة شعور ديني قوي تغذيه عوادي الزمان ويذكيه حضور قوي لفكرة الموت مع شعور عميق بالخوف يغذي الحاجة إلى ملجأ. 2- الاتجاه نحو تعميم النظام الكهنوتي وفرض هيمنته على مجموع الأقطار الأوروبية مما أدى إلى بروز نزعة معادية له مركزة ضد الامتيازات العملية والمالية التي يتمتع بها المنتظمون في سلكه.
3- كثرة التجاوزات والتعسفات التي يرتكبها هؤلاء.
4- تطور الطباعة التي مكنت من نشر الإنجيل الذي حقق نجاحاً كبيراً جعلت منه المرجعية التي لا تقبل الطعن.
وإضافة إلى هذه العوامل ذات الطبيعة النفسية كانت هناك عوامل موضوعية في مقدمتها تطور المدن وظهور فئة من المثقفين حملت شعار التجديد، وقد تحدثنا عنهم في مقال سابق.
إن ظهور المدن في أوروبا منذ القرن الثاني عشر كان ظاهرة جديدة تماماً: "ذلك أنه قبل هذا القرن لم يكن في أوروبا سوى أطلال المدن الرومانية القديمة التي لم تكن تضم بين أسوارها سوى كمشة من السكان يحيطون برئيس عسكري أو إداري أو ديني". لم يكن في هذه الحواضر التي كانت في الأساس مقراً للأسقفيات غير عدد قليل من "laїcat" (المسيحيين غير المنتظمين في جهاز الكنيسة) يحيطون بكهنة أكثر منهم عدداً ولم يكونوا يعرفون من النشاط الاقتصادي سوى سوق محلية صغيرة لا يتعدى مداها تغطية الحاجات اليومية". ومع تطور العلاقات التجارية مع العالم العربي بدأت تنشأ مدن جنينية "portas" مستقلة أو ملتصقة بجنبات الحواضر الكهنوتية أو "المحطات العسكرية". وقد عرفت هذه الظاهرة تطوراً كبيراً انطلاقاً من القرن الثاني عشر حينما أخذت تغير بعمق البنيات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وبدأت، من خلال قيام البلديات، في زعزعة بنياتها السياسية والثقافية.
في إطار هذه التحولات الاجتماعية الاقتصادية الفكرية ظهر "لوثر" نفسه. وتؤكد المراجع التي أرخت له أنه لم يكن من رجال الكهنوت ولا من المثقفين الجدد، ولكنه انشغل منذ أن دخل الدير بالبحث عن اليقين في مسألة "الخلاص". كما تبرز هذه المراجع أنه قام ما بين 1513-1518 برحلة سياحة (دينية) اهتدى خلالها إلى مبتغاه من خلال مقطع من رسالة القديس بولس "الرسول" (المبشر الأكبر بالمسيحية بعد المسيح) يؤكد فيها أن "الإيمان" وليس الارتباط بالكنيسة هو طريق الخلاص. ومن هنا سيصبح ربط الخلاص بالإيمان، وليس بالبابا ولا بصكوك الغفران التي يمنحها، هو حجر الزاوية في نظرية "لوثر". كان البابا قد لجأ إلى بيع صكوك الغفران من أجل بناء كنيسة القديس بطرس في روما، الشيء الذي رأى فيه "لوثر" مسلكاً لا ينسجم مع تعاليم الكتاب المقدس. وفي هذا الموضوع كتب "لوثر" 95 أطروحة اعتراضية حول "صكوك الغفران" لقيت، عندما طبعت واستنسخت، إقبالاً منقطع النظير. "إن الانتقادات المعقولة جداً والموجهة ضد بعض الممارسات والسبل التي كانت تستغل بها سذاجة الجماهير لفائدة الخزانة الرومانية جعلت تلك الأطروحات تبدو كبيان للتحرير".
والجدير بالإشارة هنا أن الأصل في "صكوك الغفران" هذه التي كان يصدرها البابا، وحتى من هم دونه، والتي تمحو جميع الذنوب يرجع، من جهة، إلى عقيدة "الخطيئة الأصلية" التي تقول بها المسيحية، خطيئة آدم عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله من الاقتراب منها، ووراثة بني آدم لهذه الخطيئة كجزء أصيل في كيانهم، كما يرجع من جهة أخرى إلى اعتقاد المسيحية في أن المسيح عليه السلام قد افتدى بحياته المؤمنين برسالته. ومن مظاهر هذا الفداء غفران ذنوبهم، ما تقدم منها وما تأخر. أما كيفية توزيع هذا الفداء/ الغفران على المؤمنين فذلك ما خص به القديس بطرس (أحد "صحابة" المسيح المكلف بالتبشير) ثم كبار رجال الكنيسة من بعده وعلى رأسهم البابا.
وكما يحدث غالباً في مثل هذه الأمور فقد مُدد مفعول صكوك الغفران هذه، التي صارت سلعة تباع، ليتجاوز مجرد محو الذنوب والمعاصي والمخالفات