هجرة العقول إلى الداخل
بناء الأمم المتقدمة يستند إلى خطوات مدروسة وتخطيط طويل الأمد بعقول مستنيرة بفكر خارج صندوق التقليدية، لم يوقفها الخوف من الفشل، عقول مغامرة في حدود مقبولة للمخاطرة، ووضعت الخطط البديلة لمعالجة أي عثرة أو تحدي كان يواجهها، وجهّزت مجتمعاتها لقرون طويلة لتقبل التغيير، على أن تكون هي العامل الرئيسي فيه وتحتضنه وتتبناه وتحدثه بما يوافق تقاليدها وعاداتها وقيمها.
وقامت الشعوب بذلك من تلقاء نفسها بعد أن نضجت وأصبحت جاهزة نفسياً ومعنوياً وفكرياً ومعرفياً واجتماعياً لمواكبة المعطيات الجديدة حسب العصر الذي تعيش فيه، وباتت هذه المواكبة هي الدافع الأساسي للثورات الإيجابية التي تبني ولا تهدم مثل الثورة الصناعية والإنتاجية والعلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك بعد أن فتحت الباب للمبدعين والأدمغة اللامعة في جميع المجالات أن تشارك في تحقيق الحلم، فشجعت هجرات العقول الأجنبية المبدعة لبلدانها، وفي المقابل عملت على تشجيع الهجرة العكسية لمواطنيها إلى دولهم الأم وهجرة داخلية لمن يعيشون في تلك المجتمعات للحياة المدنية بكل مقوماتها والاستثمار في رأس المال المعرفي والابتكاري والبشري والاجتماعي والثقافي والرمزي والروحي والتجريبي بجانب مضاعفة رؤوس الأموال التقليدية، مما أدى إلى أسلوب ونوعية حياة أفضل ومستوى معيشي مرتفع، وتمكنت من الحصول على تكنولوجيا متقدمة وظروف سياسية مستقرة، بعد أن فرغت البلدان النامية، والتي هي في طور التطوير من موهوبيها وعقولها الأبرز التي هاجرت لتلك الدول الصناعية، والتي يفوق نموها الاقتصادي نموها السكاني وميزانها التجاري يميل لصالحها (قيمة الصادرات تفوق قيمة الواردات)، وتلك دول مثل أميركا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى يتساوى نموها السكاني مع نموها الاقتصادي وميزانها التجاري يميل لصالحها أيضاً مثل أستراليا وكندا والصين وماليزيا.
وفي الجانب الآخر، هناك ما يسمى بدول العالم الثالث كمعظم الدول الأفريقية والعربية الغارقة في ديونها، ويفوق نموهم السكاني نموهم الاقتصادي كما يميل ميزانها التجاري لصالح غيرهم بشكل كبير.
وبالرغم من أن نسبة النمو المادي بكل جوانبه والعلمي في كل مجالاته يميل للدول الاقتصادية المصنعة التي تمتلك حظاً أكبر من كنوز المعرفة وأحدث التقنيات. وهذه التصنيفات التي تقسم العالم إلى عالم أول وثان وثالث، أحدثت ازدواجية سوسيولوجية، وطرحت إشكالية لها علاقة بأسباب تخلف جزء كبير من العالم وربط شروط التنمية بالتحديات الإنمائية لتتوسع الفوارق مما يضمن تدفق الهجرة، للعالم الأول وتجفيف ما يسمى بالعالم الثالث من الأدمغة المميزة فيه، وهذا بدوره يضع العراقيل أمام العاملين في الدول الأقل تطوراً من تبادل المعارف والمهارات والقدرات الابتكارية، وبالتالي تعزيز التنمية الاقتصادية لبلدانهم وبقائهم فيها. وهي معضلة وعي مُغيّب في وطننا العربي على سبيل المثال والإصرار على أن كل ما تحتاجه هو شراء وجذب الدراية المعرفية والتكنولوجية وتعلمها والتركيز على كيفية القيام بشيء ما، بدلاً من «ماذا أعرف» (الحقائق)، «وأعرف لماذا»(العلم) ، أو «من يعرف» (العناصر البشرية الوطنية وشبكات المواهب العالمية)، وهل يمكن تحقيق المعرفة وفق البيئة القائمة والظروف والمعطيات الوطنية فأصبحنا بالتالي نملك المعرفة الضمنية ولا نملك المعرفة الصريحة؟
ولذلك نلاحظ أن البحث العلمي في العالم العربي في آخر سلم اهتمامات الدول وتصرف عليه ميزانية تكاد لا تذكر، فيمنح الباحثون في الجامعات العربية مبالغ لا تكفي لشراء سيارة متوسطة الجودة، ويطلب منهم صرف المبلغ بأي طريقة قبل نهاية السنة بدلاً من التركيز على نوعية البحث العلمي، ولذلك نرى هناك مواد وأجهزة تساوي الملايين مكدسة في تلك الجامعات لا تعمل، وإذا احتاج أستاذ الجامعة إجراء بحث ما يجب أن يصدّق عليه من قبل كل دائرة داخل وخارج الجامعة، وينتظر لشهور.
وعندما تأتي الموافقة ينظر بيأس لحالة المختبرات التي صُمِّمت لبحوث الطلاب في مراحل التعليم الجامعي الأولى ناهيك عن أنه لا وقت لديه في الأساس لإجراء البحوث، فهو مشغول بالمنصب الإداري أو بتدريسه في الجامعة أو المناصب في مجالس الإدارات التي يشغلها خارج الجامعة، فأصبحت الدكتوراه رخصة قيادة لوظيفة وراتب ومكانة أفضل بدلاً من جواز سفر لعالم البحث والتطوير والتجربة العلمية واختراع ما ينفع دولهم والإنسانية، وكأن هجرة العقول نحو الاستقرار الوظيفي والوجاهة الاجتماعية وإرضاء مسؤوليهم وما يملكونه من مهارات بحثية معطلة بفرمان حكومي، وإن كان بغير قصد، ولكن الضرر واقع على تلك الدول مستقبلاً لا محالة.
فهل هناك حلول عملية لإعادة الموهوبين والأدمغة المبدعة والعلماء وحملة الشهادات العلمية العالية وأصحاب التخصصات النادرة والمهارات التقنية العصرية للوطن العربي؟ وهذا التساؤل مطروح في ظل الحاجة الماسة لأن تحتضن الدول العربية التي تعد تجارب رائدة في النمو والنهضة المطردة على مستوى العالم، ولديها بيئة تحتية عالمية لجذب الأدمغة العربية المهاجرة، بل لكل عقلية يمكن أن تضيف بُعداً آخر للمشهد العلمي والتطويري بتلك الدول، والتي يجب أن تكون منصات لتطوير ثورة الاتصالات والشبكات الإلكترونية والأنظمة الذكية والتكنولوجيا التقنية والحيوية وتشجيع التعاون الدولي في مشاريع مشتركة وجذب العلماء والموهوبين.
الاستثمار في البنية التحتية لتكنولوجيا العلوم طريقة ممتازة لإعادة توجيه هجرة الأدمغة بجانب إنشاء شبكات للمغتربين وشبكات علوم دولية، وبالتالي تمكين تلك الدول للوصول إلى مستويات نمو عالمية وتسهيل هجرة العلماء لها.
وهناك دول عربية أصبحت تمثل حلماً للهجرة لفئات مختلفة من أطياف المجتمع الدولي، ولكن قد ينقصها برامج حكومية مستدامة لبناء قدرتها التنافسية المستقبلية في الاقتصاد العالمي والتركيز على الديناميكية الاقتصادية.
عربياً لابد من إعادة النظر في تطوير التعليم الأساسي والتعليم العالي وإنشاء مراكز بحوث بمعايير عالمية وإنشاء صندوق استثماري عربي مخصص لدعم البحث العلمي والاختراع والابتكار والتخطيط التنموي، لجعل المجتمعات ضمن منظومة التطوير التراكمي. وفي دولة مثل سنغافورة وهي دولة مصدرة للمعرفة تستخدم مختلف السياسات والحوافز لجذب المواهب الأجنبية إليها.
وقد بدأت سنغافورة في عام 1997 استحداث دائرة المواهب الدولية في وزارة القوى العاملة لتسهيل تدفق المواهب الدولية وتم تشكيل لجنة توظيف وجذب المواهب في سنة 1998وبرامج مماثلة أخرى تشمل مشروع القوى العاملة 21، والذي أطلق في عام 1999، وقد وضعت الحكومة خطة لإسكان تلك المواهب بهدف توفير أماكن إقامة بأسعار معقولة ومريحة للمواهب الأجنبية، وذلك لجذبهم للعمل والبقاء في سنغافورة.
وهناك برامج متنوعة في كل دول العالم لجذب المواهب، ففي كندا على سبيل المثال يستطيع الشخص صاحب الموهبة الفذة أن يتقدم للحصول على فيزا للعمل والعيش في كندا من خلال برنامج هجرة على الإنترنت، وشكلت معظم الدول المتقدمة دوائر حكومية ضمن وزاراتها المختصة لجذب المواهب والعلماء والعمال الماهرين.
وأستغرب كيف لا تعمل الدول العربية على الوصول لصيغة مشتركة لبرامج لرعاية الموهوبين؟ ولماذا تهاجر تلك العقول خارج الوطن العربي ونحن ننظر لهم مكتوفي الأيدي وكأن الموضوع لا يعنينا؟