النخبة اللبنانية... خصائص وسمات
تبدو النخبة اللبنانية، كالمسرح الشكسبيري الذي يجمع بين فرقاء يتآمرون في الخفاء ويتصارعون في العلن حول المطامح والمصالح والمناصب. وتتشرب هذه النخبة ملامح المجتمع اللبناني الفسيفسائية المعقدة، فتأتي على شاكلتها مختلطة متداخلة، تتقارب وتتباعد وتتجاذب وتتنافر في حالة من الغليان الذي لا يعرف للابتراد سبيلاً ولا إلى الراحة طريقاً. ففي لبنان يوجد كل شيء وكل نوع من البشر، الأثرياء المتخمين الذين يتجشأون البطر والفقراء المعدمين الذين يناطحون الحياة من أجل لقمة عيش تسد جوعتهم أو ثوب يستر عورتهم، وهناك القصور الفاخرة والسيارات الفارهة في بيروت وجبل لبنان مثلاً، وهناك أكواخ البسطاء وعزب الصفيح على أطراف المدن وفي أغوار الأقاليم. وهناك من الناس المستبحر في العقيدة المستعد أن يدفع حياته ثمناً لها، وهناك المتفلت والعبثي الذي لا يؤمن بشيء. والمجتمع يتحمل هذا التنوع ولا يضيق به، وهذه من الخصائص المميزة للبنان.
وتخضع أشياء كثيرة في لبنان للبيع والشراء، حيث تسيطر "ذهنية الصفقة"، فبعض الصحف تدير بوصلتها في اتجاه من يدفع، وبعض الناس يغيرون انتماءاتهم الطائفية مثلما تتبدل فصول السنة، فاليوم شيعي وغداً سني والعكس. ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي تضم فيه العائلة أحياناً تحت أجنحتها المسلمين والمسيحيين، فالزواج مفتوح على مصراعيه. وكما انقسمت العائلات قسمت المناصب السياسية أو وزعت، فرئيس الدولة مسيحي، ورئيس الوزراء مسلم سني، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي، وفي ذات الوقت توزع مقاعد البرلمان وكراسي الوزارة ووظائف الإدارة العليا على الطوائف حسب وزنها الاجتماعي. والحياة السياسية عامة يحكمها الزعماء، وهم قادة الطوائف ورؤوس المليشيات ورؤساء الأحزاب وكبار الملاك.
ولبنان الذي انفتح على العالم مبكراً نهل من الثقافات المختلفة حتى ارتوى وتلونت خريطته الفكرية بشتى الألوان، فهناك التحديثي وهناك التقليدي، وهناك الراديكالي في مقابل المحافظ، ويوجد من يفكر تفكيراً لاتينياً ومن يسلك نهجاً أنجلوسكسونياً، ويحيا فريق حياة دينية خالصة وفريق آخر لا يرى للعلمانية بديلاً، وفي خضم هذا الانفتاح لا تزال العشائرية تعشش في العقل اللبناني.
وهذه التركيبة اللبنانية الفريدة في العالم العربي انعكست على النخبة اللبنانية، فجاءت حبيسة داخل الطوائف وملونة بألوانها، مهما حاول البعض أن يتنصل من هذا، وعلى رغم كل النداءات التي يطلقها مثقفون ومفكرون لبنانيون يدعون بملء أفواههم إلى ضرورة الخروج من نفق الطائفية الضيق.
وإذا كانت هذه هي خصائص النخبة السياسية اللبنانية التي تبوأت مقاعد السلطة، سواء في البرلمان أو الوزارة، فإن هناك نخبة مضادة تضم أولئك الذين يخسرون في المنافسة الانتخابية على مقاعد مجلس النواب، والذين يتم تجاوزهم عند تشكيل الحكومات. وأولئك يشكلون نخبة قوية في وجه النخبة الحاكمة، حيث يمتلكون ذات المقدرات من التأييد والدعم المحلي والتمرس في العمل السياسي العام وامتلاك الثروة والتاريخ. وعلى رغم أن الحكومات المشكّلة دائماً تراعى مسألة احتواء أصحاب النفوذ وترضية الطوائف، إلا أن الحياة السياسية اللبنانية مليئة بالمتذمرين والمتمردين؛ ولذا فليس من الغريب أو الجديد أن تجد عقب كل تشكيل وزاري مجموعة ترفض وتعارض بشدة وهي ليست من أولئك الذين تم استبعادهم فقط بل أيضاً من بين الوزراء أنفسهم الذين لا يرضون عن حقائبهم، وكانوا يطمحون في حقائب أعلى وأكبر.
ونشاط النخبة السياسية في لبنان، سواء الحاكمة أو المضادة جعل الحياة السياسية هناك مليئة بالحركة ومتيمة بالتغيير فـ58 وزارة في 52 عاماً ومجلس النواب ينتقل عدد أعضائه من 55 إلى 66 إلى 77 ثم يهبط إلى 44 ويرتفع إلى 66 ويقفز إلى 99 ويستمر هكذا منذ عام 1960 حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية فيقفز إلى 108 أعضاء، ثم أخيراً 128 عضواً. فالطوائف تزيد وتبرز قوة بعضها بعضاً؛ ولذا لابد من أن يتم التنفيس عن هذه القوة بتوزيع الأعداد والمناصب والأدوار وإلا حدث الانفجار، بل إن هذا الانفجار كان محتوماً فاندلعت الحرب الأهلية وشوهت صورة لبنان الاجتماعية ولطخت جدرانه بدماء أبنائه ويكفي أن نقرأ رواية الأدبية اللبنانية رجاء نعمة "كانت المدن ملونة" لنعرف القدر الهائل من المعاناة والإحباط والتفسخ الاجتماعي الذي أصاب لبنان في هذه الحرب. وازداد الأمر سوءاً حين دهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي لبنان الجريح عام 1982 فافترست جزءاً منه، واقتطعت بعض نخبته السياسية بجماهيرها فجيشت منها جنوداً عملاء ولم يطق الشاعر الفذ خليل حاوي أحد أبرز وجوه النخبة المثقفة هذه المفارقة فانتحر احتجاجاً على أداء هذه النخبة السياسية المتصارعة التي أورثت لبنان الخراب والاحتلال، معبراً عن احتجاجه هذا في بيتين رائعين من الشعر يقول فيهما:
"نحن من بيروت مأساة ولدنا... بوجوه وعقول مستعارة
تولد الفكرة في السوق بغياً... ثم تقضي العمر في لفق البكارة"
ويكفي أيضاً أن نقرأ كتاب الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش "ذاكرة للنسيان" لنعرف الكم الرهيب من اليأس والخوف الذي تسرب إلى نفس المثقف جراء هذه الحرب الوحشية. ويكفي أيضاً أن نقرأ رواية "حكاية زهرة" لحنان الشيخ لنقف على بشاعة الحرب الأهلية التي سقط فيها لبنان في الفترة المتراوحة بين 1975 وحتى 1989.
وبعد الطائف أصبحت هناك ثلاث قضايا تدور حولها النخبة السياسية اللبنانية في أدائها وتحسب حسابها في تنافسها، وهي تحرير الأرض السليبة، وإعمار البلاد المخربة، والحد من صراع الطائفية المرذول، وستظل هذه القضايا تؤرق النخبة السياسية اللبنانية في المستقبل المنظور.
وعلى رغم أن المقارنة تتطلب توازناً في المعلومات إلا أنه يبدو من القراءة السريعة للنخبة السياسية اللبنانية أنها تقترب في بنيتها وأدائها من النخبة في الغرب، وتبعد إلى حد ما عن النخب المماثلة في البلدان العربية.