في السبعينيات، كتب الدكتور غسان سلامة كتابه الشهير عن المجتمع والدولة في المشرق العربي، وفي هذا الكتاب تناول الباحث ظاهرة تريُّف المدينة، عبر انتقال طبقة العسكر من الريف المشرقي ليسيطروا على المدينة العربية عبر آلية الانقلابات العسكرية التي يقودونها، وبذلك دانت لهم السلطة، ليس فقط على المدينة العربية، بل على معظم الأقطار التي نجحوا في الإمساك بتلابيب الحُكم فيها. تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع الأحداث السياسية في كلٍّ من مصر والعراق. ففي مصر، تحاول السلطات التضييق على الحريات العامة، وإثارة القضايا القانونية بحق بعض المذيعين والمذيعات في التلفزة الخاصة. والحقيقة أنّ بعض قنوات التلفزة هذه تتخذ من الصحف الصفراء نموذجاً لها في إثارة الشارع السياسي وكسبه لصالح المعارضة التي تمثلها. وظاهرة المحطات التلفزيونية الخاصة، ظاهرة جديرة بالدراسة من قِبل المتخصصين في الإعلام، ولكنها تعطي نكهة جديدة لمصر في حقبة ما بعد مبارك. فلقد كان الإعلام عموماً في عهد مبارك وأسلافه رسمياً ومكمّماً، ولم نكن نسمع النكتة المصرية الشهيرة إلا من أفواه الناس، أو في مسرحيات عادل إمام، وغيره من نجوم الكوميديا المصرية. أما اليوم، فباسم يوسف، ولميس الحديدي، يملآن الدنيا ضحكاً، ليس في مصر وحدها، ولكن لكل مهتم ومتذوق للنكتة المصرية في أي شبر من العالم عبر اليوتيوب وغيره من قنوات التواصل الاجتماعي. والحقيقة أنّ إغلاق مثل هذه البرامج التلفزيونية في مصر سيدفع بهؤلاء النجوم الجدد إلى الهجرة إلى الفضاء التلفزيوني العربي في أي قـُطر من أقطار العالم العربي. وسنظلّ نتذوّق النكتة المصرية سواءً وافق عليها صاحب المقص الإعلامي، أو لم يوافق. وفي رأيي أنّ المسألة أعمق من ذلك. فالثورات العربية التي أتت بزعماء سياسيين جدد لم تنتج لنا ثقافة جديدة. وإذا كان فلاحو الريف قد أرسلوا أبناءهم إلى المدارس والكليات العسكرية ليأخذوا رتباً عالية، وليضطلعوا بالقيام، فيما بعد، بالانقلابات العسكرية في الستينيات والسبعينيات، فإن نظراءهم في بداية هذا القرن، قد أرسلوا أبناءهم لدراسة الهندسة والطب والصيدلة وغيرها من العلوم الحديثة ليحصلوا على درجات علمية، وليتحوّلوا بعدها من صنعتهم الأساسية ويصبحوا سياسيين جدداً، وقادة لأحزاب تتخذ من الإيديولوجيا والحشد الإعلامي والشعبي منهجاً وطريقاً. وكنت أتمنى لو درس هؤلاء السياسيون بعض أبجديات السياسة، ولو على الأقل الكُتب الكلاسيكية لجون لوك، وروسو، وغيرهما ممن وضعوا مفاهيم الحرية والعقد الاجتماعي وغيرها من المفاهيم الأساسية في الديمقراطية. ولكن للأسف، فقد تعدّى الحماس السياسي لهؤلاء القادة الجدد هذه المواضيع، وجاءوا بنظريات الهندسة ليطبقوها على السياسة، وليتنطّعوا بمنظور إيديولوجي مغلق لا يحتمل التفسير أو التأويل، ليركبوا راحلة تدهس كل من يقف أمامها. وهذا الحماس السياسي يتجاهل ماضي الثقافة العربية والإسلامية التي كانت تأخذ من الحوار منهجاً وطريقاً، وكان العالِم منهم والفقيه، يقول هذا رأيي فإن أصبت فهو من الله، وإن أخطأت فهو من نفسي. فالمثقفون المسلمون الأوائل كانوا لا يقطعون بطرح الرأي بل يتداولونه ويحملونه على محامل عدة، وكلها اجتهادات تقبل التصحيح، والتجريح. والسياسي الجديد في بلدان «الربيع العربي»، سياسي ينظر إلى الأمور بمنظور مُطلق، ولا يتحمّل النقد أو التجريح حتى من قِبل مذيعين وكوميديين في محطة للإذاعة أو التلفزة. فالرأي الواحد للأسف هو الرأي السياسي الأوحد الذي يجب أن يهيمن ويُهمّش سواه. ومثل هذه النظرة للأمور نظرة قاصرة، لا تحترم الآخرين، وتنظر برؤية شمولية لا تختلف كثيراً عن نظرة الطبقة السياسية في العهد السابق. ومثلما يذكر الكاتب مأمون فندي، في مقالة مهمة كتبها مؤخراً عن تداول الاستبداد في دول الشرق العربي، فإن دور الكتاب منذ عهد عبدالرحمن الكواكبي هو النظر في طبائع الاستبداد، ويذهب الكاتب إلى أنّ ثورات «الربيع العربي» قد خلت من مفاهيم احترام حرية الفرد واختياراته، لأنّ الثقافة السائدة لا تحترم بالضرورة كرامة الإنسان، والتزام الدولة والمجتمع بالقيم العالمية التي تضمن هذه الكرامة. ويبدو لي أننا لا زلنا نحمل الريف في أفئدتنا، حتى لو هاجرنا إلى المدينة وكنا كذلك نحمل درجات علمية عليا. فالثقافة، ومنها الديمقراطية، وممارستها، تحتاج إلى فكر متفتح وعقل يقبل بالآخر ويتحاور معه. كما تتطلب تراكماً أو إرثاً اجتماعياً هائلاً يمكن أن يبني فوقه الإطار السياسي الأكبر. وفي ظل غياب الأطر الاجتماعية، فإن الأنظمة السياسية الجديدة والتي تتبنى «الديمقراطية من غير الديمقراطيين»، كما يقول غسان سلامة، تبقى أُطراً شمولية قلباً وإن كانت ذات ملامح ديمقراطية في قالبها. وستستمر الثورات العربية في تخريج دفعات جديدة من قيادات وأحزاب سياسية مؤدلجة، مادتها الرئيسة هي الخطاب السياسي، وتهميش الرأي الآخر، مثلما كانت تفعله الأنظمة السابقة. ومثل هذا شيء غير مستغرب طالما ظلّ التعليم والتنشئة الاجتماعية والسياسية منذ الصغر مقولبة في قوالب إيديولوجية جامدة. وحتى لو تطوّرت الأنظمة الاقتصادية في دول «الربيع العربي»، فإنه لا يمكن القضاء على هذا المرض المزمن في الأمد المنظور.