كوريا الشمالية والحرب النووية
تتناقل وسائل الإعلام بكثافة هذه الأيام الأخبار عن إعلان كوريا الشمالية حرباً نووية ضد الولايات المتحدة الأميركية، ثم يفرّع الكثير من الناس -كل بحسب مشربه- ما شاءت له الأحلام أو أرادت له الكوابيس في قراءة هذا المشهد الدولي القديم المتجدد في هذه القضية.
يُصعِّد البعض فيعتبر أن القضية ستؤدي لحرب عالمية ثالثة، ويُخفِّض البعض ليعتقد أن المسألة لا تستحق النقاش والجدل، وبينهما طريق ثالث يتابع ويرصد ويحلل ويقارن، وهو لا يستحضر التاريخ إلا بقدر ما يمنح الاقتصاد والأوضاع المأساوية للشعب الكوري الشمالي قدرها، ولا ينحاز للواقعية إلا بقدر رفضه للأحلام والكوابيس، وبين هذه الأطراف يجب أن تثار الأسئلة ويدور الحوار ويستمر الجدل في محاولة لبناء رؤية تكون أكثر تماسكاً وأقرب للصواب.
كوريا الشمالية نظام ديكتاتوري بشكل استثنائي في التاريخ المعاصر، فهي جمهورية ووراثية في الآن نفسه، وهو ما قد يثير سخرية المراقب والمتابع من النظام ولكنّه في النهاية نظام يشكل وبالاً على شعب كامل تروى عنه الأساطير في مدى جوعه، ومدى سخرية القرارات التي يصدرها النظام على شعبه.
تتحدث بعض وسائل الإعلام وبعض المراقبين عن رئيس كوريا الشمالية كيم جونج أون كرجل يمكن أن يرتكب حماقات، ولكن هل صحيح أنه يقود بلاده منفرداً؟ أم أنّ الأصح أن لديه من قيادات الجيش والبلاد التي ورثها عن أبيه وجدّه ما يمكن أن توجه قراراته وتؤثر على مواقفه؟ وأنّه إنْ لم يع حجم المغامرة التي يقدم عليها، فإنهم قادرون عند لحظة الحسم على إخضاعه لمنطق العقل ومصلحة النظام؟
ليس عبثاً بحال أن يعلن هذا الديكتاتور حرباً نوويةً على أميركا، وأن الأخيرة تفاوض الصين التي يرتبط معها بعلاقات تاريخية ومصالح جمة، فهي تمثل بالنسبة له الرئة التي يتنفس منها، ولكن هل يقدم على مثل هذا الفعل أم أنه مجرد تهديد؟ الذي يبدو أنه مجرد تهديد وتصعيد يدفع إليه اختناق بلاده جرّاء العقوبات الاقتصادية، التي أحكمت الخناق عليه وعلى نظامه.
لو أقدم «كيم» ومن معه من قيادات حزبه وجيشه على إطلاق صاروخ نووي واحد فسوف تنتهي كوريا الشمالية، فضلاً عن نظام «كيم» وحزبه وجيشه، وستصير بلاده نسياً منسياً، ولئن أرادت بعض الدول المؤيدة له وضع أميركا في حالة تزيد من الصعوبات التي تواجهها عبر التهديد النووي، فلا يشك عاقل أن ذلك سيعود عليهم بالوبال والخسار، فاللعب عبر السياسة والاقتصاد والدبلوماسية ليس كاللعب بالسلاح النووي.
قوّة الولايات المتحدة الأميركية العسكرية الضاربة ليست محل جدل، وكوريا الشمالية غير قادرة على الإضرار عسكرياً ولا نووياً بالولايات المتحدة الأميركية، وأميركا تاريخياً لم تساوم أبداً على أمنها دولياً، فهي دخلت الحرب العالمية الثانية بعد الهجوم الياباني على أسطولها في «بيرل هاربر»، وكان دخولها الحرب حاسماً في انتصار الحلفاء على دول المحور، وهي لم تتردد في ضرب اليابان بالقنابل النووية حتى أجبرتها على الاستسلام، وأقرب من هذا فإنه يكفي تذكر أزمة الصواريخ الروسية في كوبا وكيف كانت أميركا مستعدةً لخوض حرب دولية نووية كبرى تجاهها، وهذا مجرد استحضار لحقائق تاريخية لا علاقة لها بالحكم عليها.
تعيش كوريا الشمالية منذ عشرين عاماً تحت نير عقوبات دولية صارمة أوصلت البلاد واقتصادها إلى الحضيض وظفرت بالسلاح النووي، وأوضاعها التي تعيشها اليوم تمنح المراقب نموذجاً واقعياً لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في إيران مستقبلاً، لهاث خلف السلاح النووي يؤدي إلى عقوبات اقتصادية تحيل البلاد إلى فقر مدقع لا يطاق.
معلوم أن المشاهد الدولية لا تتطابق وقد كتبت هنا قبل سنوات مقالاً بعنوان «إيران ليست كوريا يا سادة»، ورصدت فيه أوجه الاختلاف بين النظامين، ولكن فيما يجمع بين النظامين، فإنهما نظامان آيديولوجيان صارمان حسما خيارهما في غواية الحصول على السلاح النووي، ومناكفة الدول الغربية والعالم حتى وإن أدى هذا إلى الانهيار الاقتصادي والاختناق تحت ضغط العقوبات الدولية.
الدبلوماسية يجب أن تكون دائماً الخيار المقدّم على الحرب، وحين تعلن كوريا الشمالية عن مثل هذه الإجراءات الاستثنائية من تهديد صريح باستعمال السلاح النووي وطرد غير مباشر للسفراء الأجانب بما يشمل الدول الغربية وروسيا بدرجة أقل فإنها إنما تعبّر عن حالة الاختناق التي تعيشها جراء العقوبات والحصار، وهي تفتش عن تحسين شروط التفاوض حين تنتصر الدبلوماسية ما تحسب أنه قد يغير شيئاً من وضعها البائس.
إن الأوضاع الإنسانية المزرية التي يعيشها الشعب الكوري الشمالي يجب أن تكون في ذهن أي مفاوض غربي بحيث تتم صياغة آلية معينة تضمن تخفيف الأعباء عن الشعب، ولا تمكن النظام من الاستفادة منها، ولهذا نماذج دولية سابقة من أقربها الاتفاق الدولي، الذي تم إبرامه مع صدّام زمن الحصار على العراق (النفط مقابل الغذاء).
ليس لكوريا الشمالية صديق معتبر في موازنات القوى الدولية سوى الصين، والصين لديها مخاوف معتبرةٌ تجاه أي تغييرات قد تحدث في نظام كوريا الشمالية وتحديداً تجاه أي تدخلات غربية حرباً أو سلماً لدى جارها اللصيق، وهو أمر يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند إجراء أية مفاوضات لتهدئة هذه الأزمة، فالصين لن تتحرك حتى تضمن حماية مصالحها من جهة وطمأنة مخاوفها من جهة أخرى.
يخطئ البعض حين يربط بين الخفض الكبير لميزانية الجيش الأميركي وقدراته على الردع حين تتعرض بلاده لخطر حقيقي، ذلك أن الجيش الأميركي حتى بعد خفض ميزانيته، يظل أقوى جيش في العالم، وهو قادر على مواجهة الدول العظمى لو اضطر لذلك، ومن هنا فإن الربط بين هذا الخفض وقدرة الجيش الأميركي على مواجهة كوريا الشمالية فيه شيء من التضليل.
أخيراً، فإنه بالتأكيد لا يوجد عاقل في العالم يرغب برؤية حرب نووية تشتعل في أي مكان في العالم، وبخاصة عند استحضار أن الأسلحة النووية المتطورة اليوم تجعل من القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على المدينتين هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين مجرد لعبة صغيرة.