التراجع السكاني... نقاش أميركي مغلوط
في الوقت الذي تستعد فيه لجنة مشتركة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإطلاق خطتها حول إصلاح قانون الهجرة، بدأت تروج فكرة لدى فئات واسعة تشمل مختلف ألوان الطيف السياسي مفادها أن الولايات المتحدة في حاجة إلى الهجرة لتعويض معدلات الولادة المنخفضة. وهكذا صرح «آلان كروجر»، أمام غرفة التجارة اللاتينية بالولايات المتحدة، قائلاً: «على مدى العقود الثلاثة المقبلة سينحدر النمو السكاني بالنسبة للقوى العاملة في أميركا بواقع الثلث، مقارنة بما كان عليه الحال قبل ستين عاماً»، مضيفاً أنه «بالنظر إلى التوجهات الحالية سيأتي أغلب النمو السكاني بالنسبة للقادرين على العمل خلال الأربعين عاماً المقبلة من المهاجرين وأبنائهم».
وفي السياق نفسه، تبنى المحافظون الفكرة ذاتها، بمن فيهم الناشط المناهض للضرائب «جروفر نوركويست»، ومعه الخبير الاقتصادي «دوجلاس هولتز إيكين» من منتدى العمل الأميركي الذي قال إن التشريعات المتعلقة بالهجرة يمكنها رفع المعدل السنوي للنمو الاقتصادي بنحو 1 في المئة لأنها ستعوض «معدلات الولادة المتدنية». وفي كتاب جديد عن العلاقات الأميركية المكسيكية، كتب «شانون أونيل»، من مجلس العلاقات الخارجية قائلا: «في مسعى لردم الهوة المتنامية في قوة العمل الأميركية، ربما سنكون مضطرين في العقود المقبلة إلى تشجيع المكسيكيين على القدوم إلى أميركا». والأمر نفسه ذهب إليه كتاب آخر بعنوان «ماذا تتوقع عندما لا يتوقع أحد الكارثة الديموغرافية القادمة في أميركا؟»، حيث يحذر مؤلفه «جونثان لاست» من تدهور سكاني سيؤثر سلباً على الاقتصاد الأميركي، ويدخلنا في مرحلة من الركود شبيهة بما عرفته اليابان خلال العقود الماضية.
والحقيقة أن هذه التحذيرات من التراجع السكاني في أميركا هي محض هراء، فخلافاً للعديد من البلدان الغنية التي ستشهد استقراراً في عدد سكانها، أو حتى انخفاضاً خلال العقود المقبلة، فإن الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التي تعتبر ثالث أكبر بلد من حيث السكان في العالم، مغاير تماماً، إذ تشير التوقعات إلى ارتفاع عدد سكانها ليصل إلى 420 مليون نسمة بحلول 2060 مقارنة بنحو 315 مليون نسمة اليوم. ورغم أن معدل الخصوبة الحالي البالغ 1.9 في المئة هو أقل من النسبة الضرورية لتعويض فقدان السكان والمتمثلة حسب الخبراء في 2.1 في المئة، إلا أن معدل الخصوبة الأميركي يظل من بين الأعلى في الدول الغنية، بل يتجاوز معدلات الخصوبة في بعض البلدان ذات الدخل المتوسط، مثل البرازيل وإيران وتايلاند والفيتنام. وقد كان المحافظون أول من روج لفكرة «أزمة شيخوخة السكان» وانكماش القوة العاملة أثناء صعودهم في سبعينيات القرن الماضي. فرغم المعطيات الحقيقية التي تقول إن سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية رفعت مستوى المعيشة، وأصبح مدى الحياة أطول لدى الأميركيين، فإن المحافظين بالغوا في الأمر لأسباب سياسية أهمها، تفكيك دولة الرفاه مثل تقليص التأمين الاجتماعي، والرعاية الصحية؛ وفي الوقت نفسه ساندت الشركات إصلاح قانون الهجرة للعام 1986 الذي فتح أبواب أميركا أمام المهاجرين للسبب نفسه الذي تدافع من أجله اليوم عن الهجرة، وهو استفادتها من تدفق أيدي عاملة رخيصة. وكان من نتائج التحذيرات المزيفة حول تراجع سكاني في أميركا أن اقُترح حل يدعو إلى التوالد أكثر، وإنجاب المزيد من الأطفال لتقضي هذه الدعوة على مطالب الجماعات المدافعة عن البيئة في الستينيات والسبعينيات المتمثلة في الحد من الولادات، وهو ما لاقى تشجيعاً من المحافظين المتخوفين من زيادة حالات الإجهاض الذي يعارضونه، بل حتى من الليبراليين الذي رأوا في قدوم المزيد من المهاجرين من أميركا اللاتينية دعماً لفرصهم الانتخابية بالنظر إلى تصويت المهاجرين المتزايد على الحزب الديمقراطي.
لهذه الأسباب والعوامل نجد أن المحافظين والليبراليين يربطون عموماً بين الزيادة في عدد السكان والنمو الاقتصادي، لكن الأمر لن يكون دائماً على هذا النحو، فإلى غاية السبعينيات والثمانينيات عندما طغت أفكار اقتصاد السوق، كان أغلب الخبراء الاقتصاديين متفقين على أن ما يهم ليس حجم السكان وعددهم، بل في الرأسمال البشري وعوامل أخرى مرتبطة بأنماط الاستثمار والاستهلاك، والأكثر من ذلك يرى العديد من خبراء الاقتصاد أن حجماً سكانياً أقل، لكنه أكثر إنتاجية، يعزز النمو ويؤدي إلى مجتمع أكثر عدلاً.
ولعله من الغريب أن نتحدث في عصرنا الحالي عن اقتصاد المعرفة، ومع ذلك ما زلنا نناقش النمو الاقتصادي من منظور عدد السكان. وإذا كانت نسبة معتدلة من المهاجرين تساعدنا في الحفاظ على قوة عمل ماهرة، فإنه أيضاً يمكن الوصول إليها من خلال الاستثمار في تعليم شبابنا، وبدلاً من تركيز المدافعين عن البيئة على القضايا التقليدية المرتبطة بالسكان، مثل الانبعاثات السامة والتلوث، فإنه يتعين الانفتاح أيضاً على قضايا أخرى، مثل جودة الهواء والفضاءات المفتوحة التي باتت مهددة بسبب التكاثر السكاني وزحفه على المناطق الخضراء.
ومع أن معظم الأميركيين يعترفون بخطورة الاحتباس الحراري والمشاكل التي يسببها، ويقر عدد كبير منهم بالدور البشري في الاحتباس الحراري، فإن النقاش العام ما زال منصباً على عدد المهاجرين السريين الذين يفوق عددهم 11 مليون نسمة، فيما يجب أن ينصرف الاهتمام إلى الهجرة القانونية بوتيرتها الحالية وتداعياتها على البيئة، لاسيما وأنها تحدث في بلد مثل أميركا معروف بشرهه الكبير على استهلاك الطاقة.
دريف هوف
أستاذ التاريخ بجامعة كنساس الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»