على رغم صغر حجم كوريا الشمالية كديكتاتورية معزولة باقتصاد مفلس، إلا أن قادتها أثبتوا قدرتهم الهائلة على التلاعب بالرأي العالم الدولي، ولعل الأسابيع الأخيرة وما جرى فيها من تطورات أوضح دليل على مدى مهارة قيادة في كوريا الشمالية بهذا الصدد، فقد تدفق العشرات من الصحفيين الأجانب على سيئول لتغطية التوتر المتنامي بين الكوريتين واحتمال اندلاع حرب، ولكن لدى وصولهم إلى البلاد صعب عليهم العثور على كوريين جنوبيين يشعرون بالخوف، أو الذعر مما يجري، بل إن أغلب سكان كوريا الجنوبية لا يأبهون كثيراً بالتصريحات العدائية التي تطلقها كوريا الشمالية. والمفارقة أنه كلما ابتعد المرء من شبه الجزيرة الكورية وجد الناس أكثر قلقاً على مستقبل السلام في المنطقة من الكوريين أنفسهم. والحقيقة أن الهدوء الذي يميز الكوريين الجنوبيين، على رغم أجواء الاحتقان التي تحيط بهم، مفهومة، بالنظر إلى المرات العديدة التي خبر فيها الكوريون الجنوبيون حيل وألاعيب الشمال والمناسبات الكثيرة التي سمعوا فيها لغة عدائية وتهديدات خطيرة. بل إنهم صاروا اليوم أكثر إدراكاً للمنطق الذي يحرك الشمال، متأكدين من أن الوعيد بالحرب ليس أكثر من كلام أجوف من غير المرجح حدوثه على أرض الواقع. وبالنسبة للمراقبين الذين يتحدثون عن حرب وشيكة بين الشمال والجنوب، محذرين من تفجر الصراع في شبه الجزيرة الكورية ليجر إليه قوى إقليمية أخرى، فهم نادراً ما يطرحون السؤال التالي على أنفسهم: ماذا سيكسب أفراد القيادة في الشمال من إشعال فتيل حرب يعرفون جيداً أنهم سيخسرونها في غضون أسابيع، إن لم يكن أياماً؟ وحتى لو استخدموا سلاحهم النووي في ضرب الجنوب، أو اليابان، أو الولايات المتحدة، وهو أمر مستبعد بالنظر إلى افتقاد الشمال لوسائل إيصال الرؤوس النووية، فإن بيونج يانج مع ذلك ستجر على نفسها الهزيمة المنكرة. وبالعكس يشكل استخدام السلاح النووي، أو أي سلاح دمار آخر، وصفة أكيدة لمحو الشمال من الخريطة. أما التلميحات التي يشير إليها البعض من أن قادة كوريا الشمالية غير عقلانيين، ومستعدون للقيام بإجراءات متهورة، فأصحابها لم يدرسوا نفسية حكام بيونج يانج، فكوريا الشمالية على رغم أنها ديكتاتورية راسخة، إلا أنها تختلف عن الأنظمة الدينية التي ربما ترى فيما بعد الموت حياة أخرى تنتظرها، بل لا يوجد ما يدعو للاعتقاد أن "كيم يونج أون" وبقية أركان قيادته مستعدون للانتحار نظير أية مبادئ كبرى يؤمنون بها، فهو معروف بتعلقه بملذات الحياة، مثل شغفه بالطعام وتعلقه بكرة السلة. والأمر نفسه ينطبق على مساعديه الذين لم يوفروا فرصة لاقتناء أفخم السيارات وأغلاها ثمناً فيما الشعب يتضور جوعاً. وأكثر من ذلك لا يوجد ما هو غريب وغير مألوف في التطورات الأخيرة والتوتر الحالي، فعلى امتداد العقود الماضية أقدمت كوريا الشمالية على عدد من الإجراءات الاستفزازية، مثل إطلاق الصواريخ، أو إجراء تجارب نووية، كما أنها سبق أن توعدت بتحويل سيئول إلى بحر من النار. واليوم أعلنت انسحابها من اتفاقية الهدنة لعام 1953 التي أنهت العمليات القتالية بين الجارين، ولكنها لم تطو صفحة الحرب نفسها، بل أدانت بشدة التدريبات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية معتبرة أنها بمثابة إعلان حرب، وزادت على ذلك بتحذيرها الأجانب المقيمين في الجنوب بالبحث عن ملجأ، أو بمغادرة البلاد نهائياً لاحتمال اندلاع حرب نووية في شبه الجزيرة الكورية. ومع أن النبرة هذه المرة كانت عالية وصاخبة، إلا أنها التغيير الوحيد الحقيقي مقارنة بالمرات السابقة. وبإلقاء نظرة متأنية على كوريا الشمالية يمكن التعرف إلى ما تريده قيادتها من وراء اللغة العدائية التي تستخدمها، وهو أن تقول للعالم إنها موجودة، وإيهام الرأي العام الدولي بأن قادتها متهورون وأنه من الأفضل الاستماع لهم، فالانطباعات المخيفة ضرورية بالنسبة لقادة كوريا الشمالية لأنها تعتمد عليها في ممارسة الابتزاز. وباختصار تريد القيادة في الشمال الضغط على العالم وإخافته للحصول على المعونات، فهي رغم اعتمادها المطلق على الصين، إلا أنها ترغب في توسيع قائمة مموليها، وهنا يستمد الشمال دروسه من التاريخ، ففي عام 1994 وبعد سنة كاملة من التوتر بسبب محاولات كوريا الشمالية اكتساب السلاح النووي وافقت الولايات المتحدة على إمدادها بشحنات النفط والماء الخفيف لمفاعلاتها مقابل تعهد الشمال بوقف برنامجه، وعندما اكتُشف في عام 2002 برنامج نووي سري في الشمال يعتمد على تخصيب اليورانيوم أوقفت أميركا مساعداتها، ولكن ما إن أجرت بيونج يانج تجربتها النووية في 2006 حتى سارعت الولايات المتحدة إلى التعهد بتقديم المساعدات مقابل وعد من كوريا الشمالية بوقف برنامجها، وهو ما لم يحدث، وإذا كان لنا أن نتعلم من دروس التاريخ فإن بيونج يانج، وبعد أن يستقر غبار التوتر الحالي، ستقول القيادة فيها لشعبها إنها منعت الولايات المتحدة من غزو أراضيها، وبذلك حققت نصراً مؤزراً على الأعداء! وبالموازاة مع ذلك ستنطلق الدبلوماسية الشمالية في حملتها للتواصل مع الغرب ودفعه لتقديم المزيد من التنازلات السياسية والمساعدات الاقتصادية، وبعبارة أخرى لا يوجد جديد فيما نشهده اليوم من توتر، حيث سرعان ما ستهدأ الأمور لنسمع مرة أخرى عن استئناف الحوار وعودة المساعدات. أندري لانكوف أستاذ التاريخ بجامعة كوكمين بكوريا الجنوبية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"