في أسبوع التفجيرات والانفجارات هذا، من استهداف سباق الماراثون ببوسطن إلى تفجير مصنع أسمدة في تكساس، لم يحدث أن عاشت أميركا وضع الضحية وحبست أنفاسها إلى هذه الدرجة، وشاهدها العالم على شاشات التلفزيون تقف عاجزة جريحة. ولم يسبق أن قبع أهالي مدينة كبيرة بهذا الحجم في منازلهم، حيث يقدر عدد سكان بوسطن الكبرى بحوالي 4,5 مليون نسمة.. يقطنون واحدة من أكبر وأعرق وأقدم مدن أميركا.. وقد وجدوا أنفسهم حبيسي منازلهم بأمر من السلطات، وذلك لضمان أمنهم وسلامتهم من الشخص الإرهابي الفار... الذي انخرط، مع شقيقه الأكبر المقتول، في تبادل لإطلاق النار مع رجال الأمن، بعد أن قاما بتنفيذ تفجيري ماراثون بوسطن المدانين واللذين قُتل فيهما أبرياء. وحتى عندما وقعت اعتداءات 11 سبتمبر 2011 التي ادعى المسؤولية عنها تنظيم "القاعدة" لم يشاهد الشعب الأميركي وبقية العالم أميركا عاجزة ومحاصرة وتمنع مواطنيها في واحدة من أكبر مدنها من الخروج من منازلهم! ولم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة أن جندت كل قوتها العظيمة، ودفعت بعشرة آلاف رجل أمن وشرطة لتعقب مراهق لم يبلغ العشرين عاماً! وقد عرفنا لاحقاً أنه مهاجر شرعي من الشيشان يُعرف بزوهار -أو جُهار- تسارانيف، الذي ما زال يحيّر القوة العظمى مع شقيقه الأكبر الذي قُتل في إطلاق النار... ويدفع رئيس الدولة الأقوى في العالم ليعقد اجتماعاً مع قياداته ووزرائه الأمنيين ووزراء الدفاع والأمن الداخلي والاستخبارات، و"أف بي آي" ومستشار الأمن الوطني ومستشار الرئيس لشؤون الإرهاب. والراهن أن أميركا كلها أصيبت بالصدمة والترويع... وهذا ما كانت عليه الحال في طول وعرض البلاد انطلاقاً من بوسطن، المدينة الليبرالية الديمقراطية الرائعة التي يفوح منها عبق التاريخ، والتي انطلقت منها الثورة ضد الإنجليز، وتحتضن أعرق وأهم الجامعات والمؤسسات البحثية في العالم من هارفارد، و"أم آي تي"، ونورث إيسترن، وجامعة تفتس للدبلوماسية، وجامعة بوسطن... وكل ذلك تعرض لاهتزاز، والأهم أن المدينة بكل إدارتها ومؤسساتها وجامعاتها ومعاهدها ومدارسها، حبست أنفاسها بعدما طلب حاكم الولاية، وعمدة المدينة مترامية الأطراف، من السكان البقاء في منازلهم بسبب تعقب إرهابيين قاما بتفجير قنبلتين في خط النهاية في سباق ماراثون بوسطن العريق، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وجرح مئة وسبعين آخرين. ولأول مرة شاهدنا أميركا بعظمتها وقوتها وجبروتها ضعيفة ومحدودة الخيارات في تعقب شبح قام بعمل شنيع وقتل أبرياء. ولأول مرة منذ اعتداءات 11 سبتمبر نشاهد أميركا أسيرة لغضب الإرهاب، ويعيد فيها الهاجس الأمني نفسه بعدما ظنت الإدارة الأميركية وشعبها أنهم دفنوا ذلك الوحش الذي أصابهم في الصميم في اعتداءات 11 سبتمبر وقتل منهم 3000 شخص. ومنذ تلك الاعتداءات نجحت إدارة بوش الأولى والثانية، وإدارة أوباما الأولى، في منع وإحباط جميع المحاولات العديدة التي سعت من خلالها "القاعدة" ومن تأثر بنهجها وأسلوبها للانتقام من الولايات المتحدة لسياساتها في محاربة الإرهاب، ولاستهداف قادة "القاعدة" وكوادرها وخاصة في عهد إدارة أوباما باستخدام الطائرات من دون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال. ولكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل.. حتى نجحت الاثنين الماضي عملية الأخوين تسارانيف في اختراق جميع الإجراءات الأمنية.. وهذا يذكرني بتشبيه طالما رددته بشأن الجهود المبذولة في مكافحة الإرهاب التي أشبّهها بحالة حارس المرمى الذي ينجح في التصدي لكثير من محاولات المنافس في التسديد على مرماه لتحقيق هدف، ويظل يتصدى ببسالة ويمنع تسجيل الأهداف... حتى ينجح المنافس أخيراً، بعد محاولات مضنية، ويسجل هدفاً... وعندها ينسى الجمهور والمشجعون تلك المحاولات الناجحة التي منعت تسجيل الهدف، ويتذكر الجميع الهدف، وخاصة عندما تبقى الكاميرا تعيده مرات، ومرات عديدة... وهذا واقع مكافحة الإرهاب، ولذلك لطالما كررت أنه لا يمكن إعلان الانتصار على الإرهاب، ولكن كل ما يحتاجه الطرف الآخر هو عملية واحدة ناجحة... وحتى لو نجح الطرف المستهدف في صد المحاولات 99,99% تبقى هناك فرصة ولو ضئيلة لتسجيل الهدف.. وهذا ما حدث في تفجيرات ماراثون بوسطن. ولذا فقد خضع الأميركيون في الأسبوع الماضي لدرس صعب في قلة الحيلة والتواضع، من خلال إغلاق مدارس بالمئات وكليات بالعشرات والمصالح والأعمال وشبكة النقل العام من قطارات ومترو وحافلات تنقل يومياً حوالي مليون ونصف مليون شخص من منازلهم إلى أعمالهم وبالعكس. وبهذه الطريقة، وفي سبيل تعقب شخص واحد، تحولت مدينة منفتحة وليبرالية وصاخبة إلى مدينة أشباح! وأعتقد أن هذا غير مسبوق، ليس في أميركا فقط، ولكن على مستوى العالم! شخص واحد يأخذ بوسطن، ومعها العالم، رهينة! وكل هذا يهز الثقة أكثر بعظمة وقوة وهيبة الدولة الأقوى والأغنى، والتي تتمتع بقدرات عسكرية واقتصادية واستخبارية لا مثيل لها في العالم! وقبل معرفة منفذي تفجيرات بوسطن كان التساؤل: من الذي قام بهذا العمل الإرهابي على رغم محدوديته ومحدودية عدد القتلى والجرحى بالمقارنة مع عمل إرهابي منظم وكبير مثل تفجيرات 11 سبتمبر؟ كما كان التساؤل مشروعاً أيضاً: هل من قام بهذا العمل الإرهابي الصاخب إرهابيون أجانب، عرب أو مسلمون أو "القاعدة"، أم قام به إرهابيون أميركيون من الداخل الأميركي نفسه. والسؤال الأخير: هل هذا بسبب التطرف الإسلامي، وانتقام من سياسات واشنطن وانحيازها وعدائها للعرب والإسلام كما تراه تلك الجماعات المتطرفة؟ أم أنه بسبب انحراف شخصي، أو نفسي، أو بسبب قضايا أخرى مثل إيرلندا أو الشيشان أو غيرها من المشكلات غير المرتبطة بالشرق الأوسط؟ وبعد معرفة الفاعلين بات السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تم انحراف فكر شابين صغيرين هاجرا إلى أميركا قبل عشرة أعوام؟ وكيف تم غسل دماغيهما وتحويلهما إلى إرهابيين يقتلان بدم بارد ويثيران الخوف والرعب في قلب الدولة الأقوى في العالم؟! وهناك أسئلة عديدة ستبقى بلا إجابة خاصة إذا لم تكتب للشقيق الثاني الحياة ولحق بشقيقه الأكبر.. وعندها لن يتعرف أهالي القتلي، ولا أهالي الجانيين، الذين لا يصدقون أن ولديهم قاما بذلك، أو قد يرون أن ولديهما ضحية لحبكة من المخابرات الأميركية! ثم إن تفجير بوسطن، وفشل اندماج الأخوين الشيشانيين في المجتمع الأميركي، وتحولهما من شابين وادعين إلى متطرفين بأفكار وتصرفات طائشة ومتهورة، لاشك أن كل ذلك ستكون له تداعيات على العرب والمسلمين الأميركيين الذين استنكروا بشدة، ونددوا بتلك التصرفات. وكذلك سيضع هذا الإسلام مجدداً في قفص الاتهام، وسيحيي فكرة صراع الحضارات بين الغرب والإسلام. وهذا يجعل الطرفين، الغرب والإسلام، بحاجة ماسة إلى الدخول في حوار حضارات بدل صدامها. وهذه الحادثة يجب أيضاً أن تدفع أميركا لإعادة التفكير في انعزاليتها وإقصائها، وما يولده ذلك من انعزال وتهميش للأقليات في الداخل، وفي سياساتها الخارجية وما تولده من عداء واستفزاز في الخارج والداخل معاً... ولنا عودة إن شاء الله.