هواجس ثورة فرنسية جديدة!
فرنسا ليست بخير. هذا هو الانطباع السائد في الصالونات الفكرية وفي التقارير المؤسساتية الفرنسية البارزة. فالدولة تعاني أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية قل نظيرها، إلى حد أن العدد الأخير لمجلة لوبوان Le Point الفرنسية جاء تحت عنوان: "كيف تولد الثورات، هل نحن في سنة 1789؟"؛ وكما هو معلوم، فالثورة الفرنسية اندلعت عام 1789 في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثرت بشكل بالغ على فرنسا وكل الدول الأوروبية، انهار خلالها النظام الملكي المطلق الذي كان قد حكم فرنسا لقرون عدة في غضون ثلاث سنوات. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والارستقراطية والدينية، وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير، وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الارستقراطية والسلطتين الملكية والدينية.
لقد بدأت الثورة الفرنسية في عام 1789 وتم إعلان إلغاء الملكية، ثم إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في سبتمبر 1792 وأعدم الملك لويس السادس عشر في العام التالي. وفي عام 1799 وصل نابليون الأول إلى السلطة، وأعقبت ذلك إعادة النظام الملكي تحت إمرته وعودة الاستقرار إلى فرنسا. واستمرت عودة الحكم الملكي واستبداله بنظام جمهوري لفترات ممتدة خلال القرن التاسع عشر؛ كما امتد تأثير الثورة الفرنسية في أوروبا والعالم، بنمو الجمهوريات والديمقراطيات الليبرالية وانتشار العلمانية وتطوير عدد من الأيديولوجيات المعاصرة.
والآن فرنسا تعاني حزمة من المشاكل المستعصية: أزمة اليورو، الدَّين العمومي المرتفع، تبعات الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، أزمة سياسية خطيرة مع واقعة الوزير الفرنسي كاهيزاك Cahuzac الذي يتوافر على حساب بنكي سري في سويسرا تتعدى قيمته ستمائة ألف يورو، حيث استقال من منصبه ووضع تحت التحقيق للخداع الضريبي، ما دفع الرئيس الفرنسي إلى نشر قائمة لممتلكات وزرائه على الإنترنت؛ كما أن هناك أزمة قيادة في فرنسا وأزمة مؤسسات. وهي العوارض نفسها التي كتب عنها علماء التاريخ في الثورة الفرنسية، فالنظام الملكي سنة 1787 عانى ظرفية اقتصادية خانقة أدت إلى نقص المواد الاستهلاكية الأولية والارتفاع الصاروخي للأسعار، وفي 14 يوليو 1789 وصل ثمن الخبز إلى أعلى مستوياته؛ وفي تلك الظروف، حاولت فرنسا استيراد تلك المواد، ولكن خزينتها كانت فارغة، إضافة إلى مديونيتها الكبيرة منذ عهد فرانسوا الأول. وكانت الدولة الفرنسية تعتبر نفسها دائماً دولة قوية فتنفق أكثر من مداخيلها، وكانت لهذه السياسة نتائجها السلبية.
وفي تلك الفترة، وقبلها بقرنين، عاشت فرنسا في مديونية فائقة؛ كما أنها في تلك الفترة كانت دولة القانون العرفي: الاستثناءات الضريبية، وتوزيع المصالح... واضعة الغنى في يد فئة من الأرستقراطيين ورجال الدين، كما أن مدير المالية الملكية القوي في تلك الفترة نيكر Necker مول الحرب الفرنسية الأميركية، واقترض المال من بعض البنوك الهولندية والإنجليزية، وفي مرحلة رد الدَّين، قضت الفوائد على ميزانية الدولة... أما بريطانيا فقد عانت في تلك الفترة المشاكل نفسها، ولكن جورج الثالث تعاون مع وزيره الأول بيت Pitt ودعم معه سياسات تقشفية إلى أن قضيا على الأزمة خلافاً للملك لويس السادس عشر الذي لم يمد يد المساعدة إلى مدير المالية الملكية مخافة رد فعل الأرستقراطيين، هذا طبعاً دون نسيان الفرق في عدد السكان، ففي بريطانيا 8 ملايين نسمة مقابل 22 مليون نسمة في فرنسا في تلك الفترة، ولذلك مرت الإصلاحات المالية بسهولة في بريطانيا خلافاً لفرنسا التي وصلت إلى المأزق السياسي الخطير.
وكانت الدولة في تلك الفترة كاليوم، إذ لم تعد قادرة على رد الديون بسبب الإفلاس، مع فارق بسيط هو أنه في تلك الفترة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الريع الذين يطعّمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسياً للفرنسيين الذين تقوم بتمويلهم.... وحسب العديد من المحللين، فإن حكومة أولاند ليست في الحركية السياسية الصحيحة، وهي غارقة في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس... وقصة وزير الخزينة الفرنسي تحمل درسين كبيرين: مسألة الضريبة ومسألة النخبة السياسية الحاكمة. وكيف لا ووزير الضريبة يتهرب من الضريبة! يا لها من مفارقة عجيبة.
ثم إن الشعب سيفقد ثقته في الحكم؛ إذ كيف يعقل أن من يفرض الضريبة يتهرب منها شخصياً ليفرضها على الكادحين من الشعب الفرنسي؛ وإذا كان وزير الضريبة يتملص من الفريضة الضريبية، فإنه مجرد شجرة تستر غابة من المفارقات العجيبة؛ ولا أتحدث هنا فقط عن الأفراد ولكن أيضاً عن المؤسسات والفاعلين الكبار، بمعنى أن الوزير "كاهيزاك" يدفع ثمن الجميع باستقالته ومحاكمته.
وهذه العوامل تضع الرئيس الفرنسي في مأزق سياسي كبير: مأزق الحكم. لكي تحكم لابد من قبول العديد من الأخطار، ولابد أن تتحدث عالياً في مجتمع تكون الصحافة ووسائل الإعلام فيه ضد تيار الحكم، وأن تقول في نفسك: الكلاب تنبح، والقافلة تسير.
لقد خلق الملك لويس السادس عشر نظاماً قوياً شمولياً إقطاعياً. والشيء نفسه يقال عن الجمهورية الخامسة الفرنسية من طرف ديغول De Gaulle: الدولة القوية له... والمصيبة هي أنه عندما تخلق دولة قوية ويحكمها إنسان ضعيف. وهذا الكلام ينطبق على لويس السادس عشر، ونتمنى ألا يصدق هذا التشاؤم الذي أتت به مجلة "لوبوان" على حالة أولاند. وأختم هنا بنقطة حكيمة قالها الكونت ميرابو في القرن الثامن عشر"إن المديونية العامة كانت هي البذرة التي أعطتنا الحرية. وأخاف إن استمرت ونحن نعيش فيها أن تسلبنا الحرية التي وهبتنا إياها".