مع الإسلاميين من الرجاء إلى القنوط!
أشرنا في مقالين سابقين إلى صلات الإسلام السياسي العراقي بالمحيط الإقليمي، وركزنا على الإسلام الشيعي، وليس إغفالًا للإسلام السني، إلا أنه لم يكن المؤثر في زمن المعارضة بقدر ما تعددت جماعاته في زمن السلطة، كمشارك أو مقاوم، وفي ممارساته نحى منحى طائفياً أيضاً. لأن الإسلام السياسي بمجمله طائفي بالوجود. فمثلما لا يوجد مسلم يتعبد خارج حاضنة مذهبية كذلك لا يوجد إسلامي سياسي خارج واحدة من الحواضن.
يأتي «الحزب الإسلامي العراقي» الأبرز بين الإسلام السياسي السني؛ غير منفصل عن «الإخوان المسلمين». فالعزل باسم لا يخرجه عن مثال العلاقة بين «الحرية والعدالة» وجماعة «الإخوان» في مصر، والغرض منه لضرورات تتعلق بأمن الجماعة، وكي لا تتحمل الأخيرة إخفاقات السياسة المباشرة. هذا وقد أشار الإخواني العراقي السابق عدنان الدليمي إلى الفصل بين «الإخوان» الأوائل والمتأخرين، أو «الحزب الإسلامي» (1960) و«الحزب الإسلامي» (1991) في كتابه «آخر المطاف».
بعد إعلان سقوط بغداد (9 أبريل 2003) تقاطر الإسلاميون عليها، واحتلوا منازل أسلافهم من أركان النظام، وداوئر الدولة كمقار لأحزابهم، حتى أن أحزاباً لم يكن لها جمهور كي تحتل مقراً، إلا أن وجود المقار والنفوذ خلق الجمهور. توجه الإسلاميون إلى الطوائف، وحلوا في مجلس الحكم ممثلين عنها، بمعنى لم يكن في حافظتهم مشروع وطني، والسبب ليس في الحالة التي تركها النظام السابق، بل في الإسلام السياسي نفسه، فهو لا يعيش خارج مياه الطائفة خصوصاً ببلد كالعراق.
أتى أكثر وجوه هذه القوى من الخارج، فعكسوا أحوالهم وهم في المعارضة على السلطة، وظلوا أوفياء لارتباطاتهم بما كانت تقتضيها الظروف السابقة، بينما المعارضة هدم والسلطة بناء. لهذا واجه إسلاميو الخارج اعتراضات من الداخل، حتى أن حزب "الفضيلة" الإسلامي -تأسس بعد زوال النظام- تحدث عن حزبيي الداخل والخارج، على أن الأخيرين لم يفهما المتغيرات الاجتماعية خلال الحروب والحصار، والمسؤولية تحتاج إلى دراية من الداخل. جاء ذلك عندما رشح «الفضيلة» أمينه العام نديم الجابري رئيساً للحكومة، فرد الآخرون يتهمونه بأنه كان يعمل أكاديمياً وله صلة بالنظام السابق، وكأنهم يريدون الجميع أن يلحق بسربهم إلى الخارج! وتلك واحدة من عدم تقدير حالة الداخل!
كان التشكيك بقدرة إسلاميي الخارج في محله، لم يجيدوا التعامل، وهم في السلطة، إلا من ماضيهم وولاءاتهم الإقليمية السابقة. هناك فرق كبير بين أن تكون هدفاً للصاروخ الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية، وأن تكون مساهماً في إطلاقه، وليس خافياً أن العديد من حزبيي السلطة اليوم كانوا يقذفون الصواريخ على بغداد مع الجيش الذي كان الجابري وطلبته يعتبرونه عدواً. كذلك ستعيش الحالة نفسها المعارضة الإيرانية مع المجتمع الإيراني، لو قُدر للنظام الإيراني السقوط قبل العراقي، ورمت نفسها في أحضان العدو.
أسفر الإسلاميون عن وجه تفاجأ به الجمهور العراقي، ففي الوقت الذي كانوا يرفعون الرايات معمدة بدماء الشهداء، ضد النظام السابق، من أجل تحرير العراقيين من الدكتاتورية، أخذ كوادرهم يتغالبون على المراكز والعقارات، ومن بينهم من افتضح بالفساد والقتل! قد يسأل سائل: كيف تفاجأ الجمهور بهذه الجماعات وقد انتخبها؟ أقول: حصل ذلك لاستغلال أمرين، الأول: سيادة التدين الشعبي، الذي غذته الفواجع، وهو صورة شوهاء للدين، وهنا لا تسمح هذه الثقافة بالاختيار السليم، فالجمهور لم يُعط فرصة كي يُساعد على التمييز بين معاشه وتدينه، فكم من دجال، في الماضي والحاضر، يطاع في العلاج، بينما لا يُطاع الطبيب!
والأمر الثاني، لعبة الطائفية، لقد أتقن الإسلام السياسي استغلالها، وأخذ يتحدث باسم الطائفة لا ببرنامجه، لأنه من الأساس ليس لديه برنامج مدني. وعاشق السلطة لا يتأخر أن يُشيع ثقافته ولو بالدماء، والبقاء على حالة متدنية إذا كان هذا الواقع هو الذي يحمله إلى سدة السلطة. ومع ذلك نؤكد أن الجمهور تفاجأ بالمفارقة بين أقوال المعارضة وأفعال السلطة، لكن مع رياح الطائفية قد يغضب الألوف لغضب ممثل الطائفة وهم «لا يدرون فيما غضب»؟ استعرنا العبارة من كاتب الواقدي ابن سعد (ت 230 هـ)، وهو يروي ما قيل في غضب قبيلة تميم للأحنف بن قيس (ت 67 هـ)! لقد شاهدنا في الخطابات الانتخابية كيف أخذ الطائفيون يشحذون همم الطائفة كي تغضب لغضبهم، من دون أن تعلم ما في قرارات النفوس!
لذا أول ما حاوله الإسلام السياسي، وهو في السلطة، فرض الطائفية كأمر واقع، وعبرها أخذ يبشر بالأسلمة، بإلغاء القوانين المتحضرة، فقد قاتل من أجل إلغاء قانون الأحوال الشخصية (88 لعام 1959)، ولما فشلت المحاولة في مجلس الحكم (2003) فرضها في الدستور الدائم. ومن توجهاته إبعاد أصحاب الكفاءات، وجلهم خصومه بالسليقة، فيكفي مظهرهم بلا لحى أو حجاب، وللشاعر: «وما أنا مِن قومٍ يدينون باللُّحى/ ولم يقبلوا إلا مِن الحلقِ تائباً» (الرَّصافي يروي سيرة حياته).
أما في الوضع السياسي، فقد أجاد الإسلاميون الاحتقان الاجتماعي وخلق الأزمات؛ بطبيعة الحال، لا تقع المسؤولية على إسلاميي السلطة، فحسب، إنما تقع أيضاً على من قَدم نفسه مقاوماً، ويستميت لإعادة عجلة التاريخ إلى ما قبل 9 أبريل 2003، بلا مراعاة للمستجدات، حتى بات من الصعب التمييز بين الإرهابي والمقاوم الصادق.
قدّم الإسلام السياسي نموذجاً من الفشل الذريع في إدارة الدولة، بينما توافرت له الظروف لإنقاذ البلاد، قد يتذرع أقطابه بعوائق الوضع الأمني والخلاف السياسي، لكن لا نظن أنهما كافيان أن تبقى البصرة بائسة، وأن يسود الظلام شارع الرشيد بعد عشر سنوات!
إنها حقبة مؤلمة، ومع ذلك لا يكف العراقيون عن الحلم، فقد حُلت عقد الألسن، وهذا العراق لا غَيرهُ، أوصى معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ) خلفه قائلاً: «وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً ففعل، فإنّ عزْلَ عامل أحب إلي من أن تُشهر عليك مائة ألف سيف» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). هذا وللجواهري (ت 1997) حصة في العنوان، قالها مبكراً في قصيدة «النقمة» (النجف 1923): «قد كنتُ أقرب للرجاء فصرتُ أقرب للقنوط/ كل البلاد إلى صعودٍ والعراق إلى هبوط/في كل يوم مبداٌّ، أوه من هذا السقوط» (الديوان).