فيما يتعلق بتطوير التعليم، توقفتُ الأسبوع الماضي عند الأسباب التي جعلت العرب يتخلفون عن الآخرين، ولا يملكون القدرة على إنتاج فكر تربوي مستقل يجعلهم قادرين على الدخول في سباق المنافسة نحو القمة، والذي سبقتنا إليه دول صغيرة الحجم قليلة الموارد، رغم ما نملكه مجتمعين من ثراء مادي وبشري وفكري وتجارب طويلة في تطوير التعليم. وقد أردت بالمقال السابق الرد على الخطاب التربوي والإعلامي الذي كثيراً ما يصور نقل التجارب واستنساخ النماذج الجاهزة، على أنه الدواء الشافي لمشكلات التعليم والفكر التربوي العربيين. وفي اعتقادي أنه ينبغي الآن تقييم الرؤية الحالية، وإعادة النظر في كثير من أحوال وأوضاع التعليم ومسارات الإصلاح التعليمي العربي، والتساؤل حول مدى جدوى مشاريع التطوير التي عرفتها البلاد العربية خلال العقود الأربعة الماضية، والتي تقتضي منا الآن تحديد الصورة بشكل واضح، وامتلاك نظرة واسعة ورؤية نافذة لمشاريع التطوير التعليمي العربية الحالية والسابقة. ووفقاً للدراسات والأبحاث المختصة، وتجارب الدول أيضاً، فإن الطريق إلى إدخال العرب في سباق التقدم، لا يكون إلا بصناعة فكر تعليمي وطني مستقل، وذلك حين يتحرك العقل العربي لإيجاد فكر تربوي أصيل ونابع من السياق العربي ذاته. نعم نحن بحاجة للاستفادة من تجارب الدول الناجحة، وإلى فهم تلك التجارب والأخذ منها دون المس بخصوصياتنا الوطنية. ولابد أن تكون للعرب رؤيتهم الخاصة للتفاعل مع عصرهم بعيون فاحصة وناقدة، لأن استسهال الاستنساخ والنقل في مجال التعليم سوف يزيدهم بعداً عن الأهداف التي يبتغونها، ويحرمهم من الوصول إلى طريق التقدم والدخول في منافسة الآخر. لقد أدركت العديد من الدول هذه الحقيقة، وأخذت تعمل على بناء نموذجها التربوي والتعليمي الخاص؛ مثل فنلندا وماليزيا واليابان والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية.. إلخ. لقد أصبح النموذج التربوي لهذه الدول مصدراً لتفوقها وثرائها المادي والمعرفي والفكري، وزيادة دخل الفرد فيها. إننا في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة بحاجة إلى صنف جديد من الباحثين والمفكرين، أصحاب الهمم الاجتهادية والفكر المبتكر، وإلى توجيه كل الطاقات المادية والبشرية والثقافية والفكرية، للعمل على دفع عجلة الإنتاج التربوي الذي يحقق النهوض الذاتي ويبلور نموذجاً تربوياً، على غرار ما فعلت الدول التي ذكرتها آنفاً، والتي صنعت تجارب ناجحة في هذا المضمار. كما يحتاج العرب إلى مراكز علمية قومية قادرة على الإسهام في تطوير صناعة التعليم، بحيث تكون هذه الصناعة نواة صلبة لضخ الطاقة الإبداعية الضرورية ولإحداث التطوير الذي يحتاجه المجتمع العربي. ولا شك أن ثمة حاجة لمن يحمي عقل الطالب العربي من تجارب التطوير الخاطئة والمستنسخة، ومن آثار الخليط المنهجي المستورد. وقد يكون من المفيد في هذا المجال تأسيس «جمعية لحماية عقل الطالب العربي من الاستهلاك المعرفي المضر». لكن قبل كل شيء، نحتاج إلى تحليل واقع التعليم بصورة صحيحة، والتعامل بجدية مع متطلبات هذا الواقع، وعلى الأخص ما يواجه التعليم من مشكلات معقدة. كما أن ثمة حاجة لوجود إدارات تعرف التعامل مع نسيج الجسم التعليمي، فالاكتفاء بالاستيراد والنقل والتجميع حرَم أنظمتنا التعليمية العربية من الفرصة لابتكار نموذجها التعليمي الخاص بها.