التحولات العربية... رؤية فرنسية
أصدر المستعرب الفرنسي الشهير جيل كيبيل مؤخراً كتاباً بعنوان: "شغف عربي"، في شكل يشبه مذكرات الأسفار والرحلات، مستعرضاً فيه يوميات رحلاته في العديد من البلدان العربية منذ سقوط نظام بن علي في تونس في شهر يناير 2011، وهذا الوعاء الزمني المحدد هو ما اختار الكاتب الإشارة إليه في العنوان الفرعي للكتاب "يوميات 2011-2013"، مسجلاً بين دفتيه مشاهداته وملاحظاته خلال أسفاره في دول الحراك العربي، وفي بعض الدول الأخرى الفاعلة في هذا الحراك أيضاً، لتتبع ما تمت تسميته إعلامياً على عجل بحالة "الربيع العربي".
و"كيبيل" باعتباره مستشرقاً ما بعد حداثي، يعتبر نفسه في حِل من الأحكام النمطية الشائعة عن المستشرقين، التي تصمهم عادة بطابع استعماري أو "إمبريالي" على نحو ما قد يفهم من بعض استخلاصات نقد المفكر الفلسطيني الأميركي الشهير أدوارد سعيد للمستشرقين. ولكن ذلك الهاجس انزاح الآن عن صدر الاستشراق، بعد أن أخذت بحوثه طابعاً علمياً تخصصياً في الدراسات العربية والشرق أوسطية، بل إن الاهتمام الغربي بالشرق بات الآن فيه نوع من الاهتمام بالذات لأن الحدود بين الشرق والغرب قد تلاشت عملياً، يقول "كيبيل"، وفرنسا نفسها أصبحت عربية في جانب من جوانب شخصيتها، كما أن الدول المغاربية أصبحت هي أيضاً فرنسية في بعض جوانب ثقافتها.
ولاشك أن كتباً كثيرة صدرت في الغرب مؤخراً حول العالم العربي، وحول ما سمي "الربيع العربي" وطابع الفجائية فيه، وقد راوح معظم تلك الكتب بين التتبعات الصحفية المبتسرة، أو التنظير المنطلق من أحكام نمطية معششة في الذهن الغربي ومفارقة للواقع العربي. وهذا ما يعطي كتاب "كيبيل" فرادته، حيث جاء حاملاً تقييم مستشرق محترف على معرفة عميقة بالمنطقة العربية، واستمراراً لأعمال أكاديمية كثيرة سابقة عن الشأن العربي سطرها المؤلف نفسه طيلة الأربعين عاماً الماضية التي أمضاها في ولعه وشغفه بهذا العالم العربي. ولذا فقد سخر كل ملكاته وخبراته لتقديم حالة التحول الراهنة في سياقات مفهومة، مسجلاً مظاهر التغيير الجارية في دول الحراك منذ عامين، وخلفيات هذا الحراك، مع الاحتفاظ لكل حالة بخصوصياتها، التي أطرت التغيير فيها، وجعلته يأخذ مسارات مختلفة عن الحالات الأخرى.
وفي حين يركز "كيبيل" في كتابته هنا عن مصر وتونس وليبيا مثلاً على التأريخ ليوميات التحول، ومظاهر الفوضى والعنف التي رافقته، واستمرت فيما بعده، يركز في الحالة السورية على حجم الصدع واستعصاء الحسم ما جعل هذه الحالة هي الأكثر دموية بين جميع حالات التغيير في دول الحراك العربي، وذلك بفعل تعقيد وعمق الاستقطاب القائم في سوريا نفسها، وحولها، وأيضاً نظراً إلى وجود فاعلين دوليين وإقليميين هم من يجعل سقوط نظام الأسد غير متاح حتى الآن على رغم حجم الإجماع الداخلي والخارجي الداعي لتغيير ذلك النظام، وضرورة انتقال السلطة في دمشق، وخاصة بعد ضلوع النظام في ممارسات عنيفة ومجازر بحق المدنيين العزل. ويرى الكاتب أن حجم الصدع الإقليمي المستقبلي المترتب على الصراع السوري الراهن هو الأكثر مدعاة للقلق، حيث يتوقع إن لم يتم إيجاد حل لهذه الأزمة أن تزداد الشروخ المذهبية والسياسية بين قطبين إقليميين متصارعين، على أساس مذهبي، من ذلك النوع من الصراعات المريرة المديدة التي تستنفد وقتاً طويلاً دون أن تصل إلى حسم أو نهاية قريبة.
وبالنسبة لما تكشف عنه ما سمي الربيع العربي نفسه حتى الآن يرى الكاتب أنه ليس من الدقة وصف التغيير الحاصل بأنه "ربيع" إن كان القصد هو اعتبار تغيير ديمقراطي مثالي قد تحقق، ومن أطلقوا كلمة "ربيع" إنما ركزوا النظر على شجرة واحدة من الغابة، وعلى بعض الجوانب الحالمة وغير الواقعية، كمزاعم تأثير الفيسبوك والتويتر، ومواقع التواصل الاجتماعي، وافتراض دور ذلك في تغيير العقليات، وأن هذا أدى لتغيير الواقع الذي كان قائماً في عهد النظم السابقة، ولكن هذه الافتراضات غير واقعية، ولعل الأقرب إلى الدقة هو أن العرب قد حققوا فعلاً منجزاً في اجتراح حرية الكلمة، ولذلك باتت قدرتهم على التعبير عن الاحتجاج أكبر وأكثر، بدليل ما نراه الآن أيضاً من أصوات مناهضة لمحاولات جماعات الإسلام السياسي الاستحواذ على الفضاء العام ومصادرة الحريات في دول الحراك العربي.
حسن ولد المختار
--------
الكتاب: هوى عربي
المؤلف: جيل كيبيل
الناشر: غاليمار
تاريخ النشر: 2013