الشعارات الأصولية... وذريعة «الحاكمية»
لما كان للدولة المصرية الحديثة خصمان: الحركة الإسلاموية والحركة العلمانية، ليبرالية أو اشتراكية أو ماركسية، فقد اعتمدت على ضرب الفريقين بعضهما ببعض لنفي أحدهما بالآخر، والاعتماد مرة على كل فريق لتصفية الفريق الآخر حتى يبقى الحكم للدولة، بعد إضعاف الجناحين الرئيسيين في المعارضة. فقد اعتمد الحكم في مصر في السبعينيات على الجماعات الإسلاموية، سلحها وشجعها من أجل تطهير الجامعات المصرية من الاشتراكيين والتقدميين الممثلين في "نادي الفكر الناصري". وتم لها ما أرادت. ثم بدأت الدولة تسير أكثر مما يجب في التحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية. فانقلبت عليها الجماعات الإسلاموية. واغتالت رمز الدولة في 1981. وفي أواخر الثمانينيات، عندما اشتدت وطأة الجماعات بدأت الدولة في الانفتاح على بعض كتاب اليسار العلماني من أجل مصلحة مشتركة وهو الوقوف أمام الجماعات الإسلاموية، باعتبارها خطراً مشتركاً يهدد الجميع. فهي العدو الذي يعمل ضد مصلحة الوطن!
والآن، الدولة في تقهقر، وتتحسر الدولة على الديمقراطية وهي أول من يقضي عليها. وتندد باستعمال العنف من الخصوم وهي أول من يستعمله. والمثقفون يسيرون مع الدولة طمعاً في منصب. وهم أول الضحايا بعد أن تلفظهم الدولة إذا ما تغيرت موازين القوى، وأعادت الحساب، من أين يأتي الخطر. والكل حريص على السلطة، من بيده السلطة يضحي بالوطن والمواطنين في سبيلها كما تفعل الدولة، ومن هو خارج السلطة وينازع الدولة سلطانها لأنه يرى نفسه أحق منها بها، ومن يخدم الفريقين، الدولة أو خصومها من جماهير المثقفين لعلهم يحصلون على شيء من السلطة، في العاجل من الدولة أو في الآجل من خصومها.
وظاهرة الجماعات الإسلاموية إذن ظاهرة سياسية بالأساس.
والتدين نفسه كالفن والفكر والعلم والأخلاق والقانون والسياسة، ظاهرة اجتماعية في الفكر والممارسة مثل بقية الظواهر الإنسانية.
ويمكن للحجج النقلية أن تكون أداة مساعدة لتحليل فكر الجماعات كما يبدو من نصوصهم. فهو فكر نصي في صياغته وإن كان اجتماعياً في نشأته. ولكن التحليل الاجتماعي لظاهرة موجودة لا يعتمد إلا على معرفة الأسباب الفعلية لنشأة الظاهرة وتكوينها بعيداً عن أخلاقيات ما ينبغي أن يكون وشرعياته. الوصف الموضوعي الذي يتتبع نشأة الظاهرة وتكوينها هو الحكم عليها، حكم من الداخل وليس حكماً من الخارج.
نعتمد هنا على التنظير المباشر للواقع، وتحليل التجارب الحية، ووصف الأحداث المؤسفة التي يعيشها الجميع. المعرفة المباشرة من الواقع الحي أصدق من المعرفة المكتبية عن طريق التحليلات الإحصائية الكمية والكيفية واستعمال هذه المناهج أو تلك، أو هذه النظريات أو تلك. ومعظمها مستقى من علوم الاجتماع الغربية التي تحتاج إلى مراجعة قبل الاستعمال، وتحقق من صدقها قبل التطبيق.
والهدف من هذا المقال هو التعبير عن لسان حال الجماعات الإسلاموية وتصورهم للعالم وبواعثهم وأهدافهم تحليلاً شعورياً عند الباحث، وقد لا يكون شعورياً عند المبحوثين حتى أبلغ رسالتهم للناس وأعرض حالتهم على مثقفي مصر وقضاتها. فأنا من جمهور المثقفين، وقاض من القضاء أحكم بين الدولة وخصومها، وأعرض حالة تسفك فيها الدماء كل يوم من الطرفين كما فعل ابن رشد من قبل بين المعتزلة والأشاعرة في "مناهج الأدلة" وبين الفلاسفة والغزالي في "تهافت التهافت". لست منحازاً لأي من الفريقين، ولكني منحاز إلى مصر وشعبها، حقناً للدماء وحرصاً على الوحدة الوطنية، وتأكيداً على أن هذا الوطن للجميع. وقد يرفضني الخصمان ولكني لا أرفض أحداً.
و"الحاكمية لله" شعار هجومي لدى الجماعات المتطرفة لتقويض بعض الأنظمة القائمة. وهي نوعان: الأول نظام ملكي يقوم على الوراثة. والثاني نظام عسكري منذ الثورات العربية التي قام بها "الضباط الأحرار" في بعض البلدان، وإن انتهكوا الحريات بعد ذلك. فقد قاموا بانقلابات عسكرية ضد النظم السابقة كما هو الحال مع مصر وسوريا والعراق والسودان، وموريتانيا والصومال، وبعضهم كانوا قادة الجيوش التي قادت حروب التحرير والاستقلال الوطني كما هو الحال في الجزائر واليمن. وهو نظام يقوم على الشوكة بتعبير الفقهاء القدماء، أو على الغلبة بتعبير الحكماء. وهو نظام غير إسلامي لأنه لا يأتي بالبيعة من أهل الحل والعقد، وإن قام بعد ذلك بانتخابات صورية يكون فيها الضابط الحر، قائد الجيش ووزير الدفاع ومدبر الانقلاب هو المرشح الوحيد، وما على المواطنين إلا أن يقولوا نعم أو لا، نعم للوطنية ولا للخيانة، وتكون النتيجة 99,9% من أصوات الناخبين الأحياء منهم والأموات للبطل المغوار، الرئيس الأفخم، والقائد الملهم، والأخ الأكبر.
ولو سئلت الجماعات: عرفنا الجانب السلبي الهادم في "الحاكمية لله" التي تتذرعون بدعواها، وأنها ضد حاكمية البشر، فماذا يعني الشعار إيجاباً ما دام النص الديني لا يحكم مباشرة، وإنما هنالك تأويلات من بشر، قد يخطئون وقد يصيبون في تأويل النص الديني؟ وهنا يستعصي الجواب. فقوة الشعار في سلبه. وقد لا يكون هناك بناء بديل. إيجابه في سلبه وليس له إيجاب مستقل عن السلب. ومن هنا غاب المضمونان الاجتماعي والسياسي للشعار لأن الجماعات بعيدة عن الواقع ولم تمارس السلطة. ما شكل الدولة؟ وما نظامها الاقتصادي؟ ما سياستها في الأجور؟ وما رؤيتها لملكية الأرض والمصنع؟ وما هي علاقاتها الدولية؟ وماذا تفعل الجماعات لو وصلت السلطة بانقلاب كما حدث في السودان، أو بثورة كما حدث في إيران، أو بانتخاب كما حدث في الجزائر قبل انقلاب الجيش على نتائج صناديق الاقتراع، كيف تدير شؤون الدولة؟ ماذا تفعل بالسلطة؟ هل تنسج على منوال تاريخي سابق من زمن مختلف، أم ابتداع جديد بناء على ظروف العصر بعد أربعة عشر قرناً، وفي ظروف حضارية وتعددية منذ مائتي عام بعد تداخل حضارة أخرى بأنظمة حكم أخرى ديمقراطية أو شمولية؟ صحيح أن "الحاكمية تتحدى" كما يزعمون، ولكن هذا أيضاً هو "تحدي الحاكمية".