«الربيع العربي»: نظرة مغايرة
خلافاً للسرديات الرائجة التي تسعى لتفسير «الربيع العربي» من منطلقات سياسية ذات مسحة رومانسية مثالية، يخط جيلبرت أشقر، الباحث والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، لنفسه مساراً مغايراً في كتابه الأخير «الشعب يريد... سبر أغوار جذري للربيع العربي. فبدلا من إغراء التبسيط وإغداق عبارات الإطراء والإشادة على الانتفاضات العربية التي أطاحت ببعض الأنظمة واعتبارها نموذجاً للتحرر، وعوض تبني نظرة مغرفة في التشاؤم حيال مخرجات هذا «الربيع العربي» وتحوله إلى خريف، حسبما تروج له الكتابات الإعلامية، يعتبر الكاتب ما يجري في البلدان العربية من اضطرابات واهتزازات مسلسلاً ثورياً طويلاً وممتداً في الزمن، قد تستمر فصوله لعقود قادمة. ولعل التحرك العسكري الأخير في مصر، واحتمالات التدخل في سوريا، أمثلة تؤكد رؤية المؤلف القائلة بأن فصول الانتفاضات العربية لم تنته بعد، وبدلا من التعامل مع أحداث «الربيع العربي» كثورات ولدت من رحم الفيسبوك والتويتر، أو حصرها في التطلعات السياسية والديمقراطية دون غيرها من الاعتبارات، يرى المؤلف أن هناك أسبابا أعمق تكمن وراء التفجرات السياسية التي شهدتها المنطقة على مدى العامين الماضيين. وهو هنا يطرح رؤية مغايرة قائمة على التحليل الماركسي لـ«الربيع العربي»، وهو تحليل لا يركن إلى الاعتبارات الثقافية، القاصرة في نظره عن تفسير اتساع رقعة الانتفاضات وعامل العدوى الذي انتقلت بموجبه من بلد لآخر، بل يرجعه إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية وتأثيراتها على أنماط الإنتاج القائمة في البلدان العربية والعلاقة بين الاقتصادي والسياسي.
فانتقال حمى التمرد على الحكومات وإطلاق شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، والذي أطاح فعلا بالأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ما كان لينجح «دون وجود أرضية مناسبة للثورة»، بل إن التسلط بحد ذاته ليس كافياً لوحده لتفسير الثورات، لذا يتعين النظر أعمق إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للإجابة عن الأسئلة التي لا تسعفنا في فهمها سوى تلك العوامل المتعلقة بالمستوى المعيشي للناس وفرصهم الاقتصادية، علماً بأن التسلط ظاهرة عربية قديمة. وهنا يحيلنا المؤلف على تجارب أخرى، فمثلا لماذا اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789، رغم تاريخ الاستبداد الطويل السابق عليها، والمحاولات السابقة لتمرد الفلاحين؟ ولماذا انتظرت أوروبا الشرقية حتى عام 1989 لتنعتق من الدكتاتورية وليس قبل ذلك؟
ولفهم لحظة الانفجار ونجاحها في حشد فئات واسعة من الناس، يعود الكاتب إلى التجربة الأوروبية، موضحاً أن الثورة إنما تندلع حين تتصادم قوتان رئيسيتان في المجتمع: علاقات الإنتاج السائدة والتطلعات التنموية الجديدة التي تعبر عنها فئات وشرائح غير تقليدية، هذا التصادم هو ما يفسر سقوط الاتحاد السوفييتي. لكن، وعلى غير عادة الماركسيين الذين يستنتجون خلاصات يعممونها على التجارب الإنسانية، يضع المؤلف الأحداث العربية في سياقها الخاص.
وانطلاقاً من ذلك السياق الخاص يغوص الكاتب في تحليل وضع الدول العربية وعلاقات الإنتاج القائمة، مبرزاً مظاهر التعطيل التنموي استناداً إلى الأرقام والإحصاءات التي يجتهد في إيرادها لتشخيص الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي في المنطقة، حيث تطغى معدلات البطالة المرتفعة، والانسحاب شبه الكلي للدولة من الرعاية الاجتماعية، وانخراط الدول في سياسات نيو ليبرالية. فإلى جانب الإخفاق الذي منيت به التجربة التنموية العربية الحديثة، والتي بدأت في مصر مع سياسة الانفتاح التي أطلقها السادات، يرجع الكاتب التعطيل التنموي إلى طبيعة الدولة نفسها، والمتأرجحة في نظره بين الدولة الريعية والدولة الأبوية التي تطغى حتى على الطابع الرأسمالي. وكما يرى الكاتب فإن العيب لا يكمن في النظام الرأسمالي الذي ظل في البلدان العربية مجرد شعار يخفي علاقات أخرى يتواطأ فيها السياسي مع الاقتصادي، فمن جهة أدى التحالف بين الاستبداد والاقتصاد إلى تفريخ الفساد وخلق نمط رأسمالي قائم على القرب من السلطة، حيث تُوزع الموارد والفرص وفق ذلك الأساس. هذا النوع من الرأسمالية يعيق تحقيق نمو اقتصادي لأنه بدلا من استثمار الأرباح داخل البلدان يتم تهريبها للخارج أو استثمارها في أسواق الأسهم الغربية جرياً وراء الربح السريع.
لكن رغم اعتماده على العناصر الاقتصادية في تفسير الثورات العربية، وتركيزه على الإخفاق التنموي للدولة العربية، لا يغفل الكاتب الأبعاد التاريخية التي تجعل من تجارب البلدان العربية مع الثورات مختلفة عن بعضها البعض. ففي مصر وتونس مثلا يعتقد الكاتب أن تجربتهما السياسية مع المجتمع المدني والأحزاب والنقابات جعلتهما أكثر قدرة على استيعاب الهزات الكبرى، فيما ظلت بلدان مثل ليبيا واليمن وسوريا، أقل قدرة على التعامل مع تداعيات «الربيع العربي»، بالنظر إلى التركة الاستعمارية من جهة وتجربة الاستبداد من جهة أخرى، حيث أُفرغت الدولة من مضامينها لحساب القبيلة أو الجيش.
زهير الكساب
------
الكتاب: الشعب يريد... سبر أغوار جذري للربيع العربي
المؤلف: جيلبرت أشقر
الناشر: منشورات الساقي
تاريخ النشر: 2013