لا عجب في التقارير الصحفية عن الخلافات الشديدة داخل إدارة أوباما بشأن السياسة الأميركية تجاه سوريا. فعلى مدار عقود دار جدل بين الخبراء السياسيين وصانعي القرار السياسي في واشنطن عن التوازن الصحيح بين القيم الأميركية الديمقراطية ومصالح البلاد القومية. وتجلت هذه المواجهة عام 1971 عندما سعى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى التقارب مع الصين. فقد مر سعي صانعي القرار السياسي في واشنطن بدبلوماسية سرية دقيقة، انغمست خلالها باكستان، وهي البلد الوسيط بين الصين وأميركا، بحالة جمود سياسي ثم في أزمة هائلة لانتهاكات حقوق الإنسان. وفي غمرة المذابح الطائفية وأزمة اللاجئين وصراع بين الجماعات المسلحة وحرب بين الهند وباكستان، حققت باكستان الشرقية استقلالاً لتصبح بلداً جديداً باسم بنجلاديش وهو صراع يعتقد أن مئات الآلاف قد فنوا فيه. وفي كتاب صدر خلال الآونة الأخيرة بعنوان «تلغراف الدم» يشوه المؤلف «جاري باس» الأستاذ بجامعة «برنستون» سمعة «نيكسون» و«كيسنجر» ويصورهما باعتبارهما شيطانين بلا قلب تسببا في هذه الأحداث. وفي لغة تذكر بالانتقادات الأقل معقولية لأوباما، يتهمهما باس بـ«التواطوء الشديد في ذبح البنجاليين». ويجادل «باس» بأن نيكسون وكيسينجر كان بوسعهما أن يرغما باكستان على إنهاء العنف ضد البنجال الهندوس، وكان يجب عليهما أن يغلقا القناة التي تمر عبر إسلام آباد إلى الصين. وتستقر اتهامات «باس» على بؤرة مفردة تتعلق بحقوق الإنسان على حساب المصالح القومية الأميركية وسوء قراءة مستديم للسجل الدبلوماسي. فقد ظهر الرئيس الباكستاني يحيى خان كقناة مفضلة إلى بكين في التقارب بين الولايات المتحدة والصين قبل أن تندلع الأزمة السياسية في باكستان الشرقية. وأكدت الصين دوره أثناء الاضطرابات. وفي ديسمبر 1970 أرسلت بكين رسالة تقارب عبر باكستان «الصديق الرائع للصين». وفي أبريل 1971 دعا الصينيون وفداً أميركياً لمحادثات رفيعة المستوى مع الإشارة إلى أن الترتيبات «يتعين أن تجرى عبر المكاتب الجيدة للرئيس يحيى خان». ولك أن تتخيل رد الفعل الصيني لو كان المسؤولون الأميركيون أبلغوا بكين في لحظة شديدة الحساسية أن دعوتها التاريخية لتحسين العلاقات مرت بالطريق الخطأ، وأن القناة الباكستانية غير مقبولة. فمن كان بوسعه أن يعرف المدة التي قد يبقى فيها رئيس الوزراء الصيني «تشو انلاي» في موقع بيروقراطي قوي بما يكفي ليتابع تقاربه مع واشنطن؟ (فبعد عامين فحسب استهجنه اليساريون المتطرفون وطهروه). ومن كان بوسعه أن يتأكد من أن ماو تسي تونج لن يغير المسار ويسعى إلى حل مشكلته السوفييتية بالتقارب مع موسكو؟ وما الاستنتاجات التي كان من الممكن أن تتوصل إليها بكين فيما يتعلق بمصداقية الولايات المتحدة لو أن واشنطن، كما يريد «باس»، غيرت بشكل كبير مسارها وتخلت عن حليف قديم أثناء الأزمة الحاسمة التي تتعلق بوجوده المستقبل؟ ويجادل «باس»، متجاهلاً هذه الأسئلة المحورية، بأن نيكسون وكيسنجر كان يجب أن يشنا حملة علنية كاملة لحقوق الإنسان ضد الحكومة الباكستانية مثل تلك التي يدافع عنها البعض في واشنطن حالياً في ما يتعلق بمصر. وخلص كيسنجر ببصيرته إلى أن مثل هذه الحملة لم تكن لتغير كثيراً في سياسة إسلام آباد الداخلية- ويجب أن تطرح أسئلة مشابهة تتعلق بالحكومة المصرية الحالية- ولكان التقارب مع الصين قد انهار. وفي كتاب «سنوات البيت الأبيض»، كتب كيسينجر: «شخصية الزعماء تمتحن باستعدادهم للمثابرة في مواجهة عدم اليقين والبناء من أجل مستقبل لا يستطيعون تفسيره ولا اداركه بشكل كامل». وبالتأكيد فقد واجه نيكسون وكيسينجر هذا الاختبار أثناء أزمة جنوب آسيا عام 1971. وتمخضت الجهود الجيوسياسية، التي يستخف بها «باس»، عن زيارة إيجابية بشكل استثنائي من نيكسون إلى الصين في فبراير 1972 والتوقيع على بيان شنغهاي الذي وضع الإطار الأساسي للعلاقات الأميركية الصينية حتى اليوم، وفي الخارج، تمخضت عن نهج أميركي للحزبين الكبيرين تجاه الصين دام أكثر من أربعين عاماً ودعم للسلام والاستقرار عبر آسيا وعن تعاون استخباراتي أميركي صيني ضد الاتحاد السوفييتي، وعن قمة عقدت في مايو عام 1972، بين نيكسون وبريجينيف في موسكو حيث تم التوقيع على معاهدة الصواريخ البالستية وأول معاهدة لتقييد الأسلحة الاستراتيجية والاتفاق الأميركي السوفييتي بشأن الحوادث البحرية. وجميعها معالم في طريق التوافق الذي قلل المواجهة بين القوى العظمى مع المساعدة في تقويض المزاعم الأدبية والجيوسياسية للاتحاد السوفييتي ومن تدميره في نهاية المطاف. وفي الوقت نفسه، فلم تساعد أي من البلدان، فيما عدا الهند، في معالجة المأساة الإنسانية في باكستان الشرقية مثلما فعلت الولايات المتحدة. فقد وافق نيكسون على إرسال مئات الآلاف من أطنان مساعدات الغذاء العاجلة على الفور بعد إعصار ضرب المنطقة في نوفمبر 1970 ثم بعد ذلك مع استمرار الأزمة، بالإضافة إلى مساعدات مالية كبيرة للاجئين البنجاليين في كل من الهند وباكستان واستخدام الطائرات الأميركية لنقل الغذاء واللاجئين في الهند. لن ينقطع الجدل الأميركي المحوري بشأن المصالح القومية وقيم الديمقراطية على الأرجح. لكن عندما يثور هذا الجدل يتعين علينا أن نكون أكثر تعاطفاً من الموجودين في قمة الحكومة الأميركية الذين يتعين عليهم أن يتخذوا قرارات آنية. وكما لاحظ كيسينجر «المحلل لا يخوض المخاطر. فإذا ثبت أن استنتاجاته خاطئة فيمكنه أن يكتب مقالة أخرى. أما رجل الدولة فمسموح له بالتخمين مرة واحدة وأخطاؤه من المتعذر إصلاحها». ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ روبرت بلاكوول السفير الأميركي السابق لدى الهند ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»