ما زلت أذكر ذلك اليوم العالق بذهني من عام 1985 الذي زارنا فيه عمي بمنزلنا في نيوجيرسي بالولايات المتحدة، قادماً من جنوب أفريقيا، حيث تعرض للملاحقة بسبب نشاطه السياسي المناهض للتمييز العنصري. وحينها كان عمي هو أول شخص ألتقي به، وأنا ما زلت طفلاً، ينحدر مباشرة من جنوب أفريقيا، البلد الذي سمعت عنه الكثير في محادثات والديّ وحواراتهما المطولة. ولكن شخصاً آخر كان دائماً في الصورة، بل تمكن بصيته وسمعته من الوصول إلى الولايات المتحدة نفسها، على رغم انغلاقها وعدم معرفتها بالعالم الخارجي، حيث فوجئت مرة في طفولتي بإشارة إلى اسم نيلسون مانديلا في مسلسل أميركي وتضمينه نشيداً يتغنى بالحرية، علماً بأنه نادراً ما يحدث أن تتسرب أسماء عالمية إلى الثقافة الشعبية الأميركية المكتفية بأبطالها ورموزها. وبالنظر إلى المسار السياسي لوالديّ ونشاطهما النضالي، حيث تنحدر والدتي من أصول يونانية ناضلت ضد الاحتلال النازي لليونان، ووالدي من قبيلة «الزولو» بجنوب أفريقيا، كنت على اطلاع بتاريخ جنوب أفريقيا ونضال شعبها ضد نظام الفصل العنصري، بل كنت أحفظ عن ظهر قلب أسماء العديد من السياسيين الذين ضحوا بحياتهم، أو بحريتهم من أجل مستقبل أفضل للبلد. وخلال الحوارات التي كانت تجري على طاولة العشاء في منزلنا بالولايات المتحدة، كنت أحرص في سنوات الطفولة، على أن أعرف الأخيار من الأشرار والتفريق بينهم بوضوح. وعندما انتقلنا في عام 1989 إلى زيمبابوي على أمل العودة نهائياً إلى جنوب أفريقيا شاهدنا الحدث الأبرز متمثلاً في إطلاق سراح نيسلون مانديلا الذي تابعته كاملاً على شاشة التلفزيون ورأيت كيف كان مانديلا يلوح بيديه لمستقبليه والمحتفين به وكأنه يومئ لنا بالعودة إلى البلد، وهو ما قمنا به بالفعل بعد سنتين. ومع تطور مداركي ودخولي مرحلة الشباب صرت أنظر إلى مانديلا، كما جميع الجنوب أفريقيين، على أنه بطل ورمز حقيقي للتحرر، بل إنه أصبح في نظرنا جميعاً هو البطل الأوحد. ولكن بالنظر أيضاً إلى نشأتي في أسرة تقدمية، حيث لا وجود لرمز ذكوري أوحد، ولا مجال لاحتكار دور البطولة، كان دائماً يلاحقني شعور بعدم الارتياح وأنا أراقب احتفاء الناس بمانديلا، وكان السؤال الملح وقتها هو: هل كان أقاربنا وآباؤنا الذين ناضلوا من أجل التحرر أقل بطولة من مانديلا؟ فأنا أخشى أنه في خضم الاحتفالات الجارية لتوديع مانديلا وتوافد قادة دول العالم لإلقاء النظرة الأخيرة على الرمز قبل تشييعه إلى مثواه الأخير أننا نودع معه أيضاً النضال والبطولة التي ما زلنا في حاجة إليهما بجنوب أفريقيا. وأننا بالاحتفاء بمانديلا ربما نكون قد أغفلنا جزءاً آخر من تاريخ بلادنا. فإذا كان مانديلا هو رمز الأمل الوحيد وتجسيد للبطولة والرمزية في مكافحة العنصرية والنظام السلطوي في جنوب أفريقيا، فهل يعني ذلك أنه بغيابه عنا نفقد أيضاً الأمل في المستقبل والقدرة على النضال والاستمرار في مواجهة الظلم والاختلالات الأخرى التي تحفل بها جنوب أفريقيا؟ ولذا فإن كل ما أتمناه في هذه اللحظة التاريخية التي نودع فيه مانديلا وسط الهوس الإعلامي والمتابعة الدولية هو أن تكون أيضاً لحظة ننصت فيها نحن الجنوب أفريقيون لبعضنا بعضاً ونقيم وضعنا كدولة وأمة ونواجه مشاكلنا المتراكمة، مستحضرين في ذلك روح مانديلا وكل الذين ساهموا في تحرر البلاد، فالمسيرة لم تنتهِ بعد والمشوار ما زال طويلاً بالنسبة لبلد يعاني أعطاباً كثيرة. ----- تينجيوي نيكي نكوسو فنان من جنوب أفريقيا ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»