قمة الكويت بين النكوص والمستقبل
لا شك أن قمة مجلس التعاون الأخيرة في دولة الكويت كانت امتحاناً غير يسير للمجلس، رغم تفاؤلنا بالبيان الختامي وبإعلان الكويت الذي لامسَ آمال وتطلعات شعوب المجلس، بل واعترف بدور الكتّاب والمفكرين والشباب. وهذا تطوّر جديد نأمل أن يستمر. كما أن حضور رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم وإلقاءه كلمة نيابة عن زملائه البرلمانيين الخليجيين كان حدثاً جديداً وسُنّة طيبة سوف تتواصل إن شاء الله في قادم القمم الخليجية. ومع كل التقدير للبيان الختامي ولإعلان الكويت (الذي يُبرّد القلب) وملامسته لاحتياجات شعوب الخليج، ومحاولته ردم الهوة التي تشكلت طوال 33 عاماً بين مجلس التعاون والنخب الفكرية والثقافية والإعلامية - التي هي" أدرى" بآمال وتطلعات شعوب الخليج، وذلك لمعايشتها هموم الشعوب اليومية، فإن ما جرى قبل القمة بيومين أو ثلاثة؛ عندما أعلن الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في سلطنة عمان السيد يوسف علوي عبدالله في المنامة معارضة بلاده للاتحاد المقترح، وأن سلطنة عُمان "ضد الاتحاد"، وأنه في حال قررت الدول الخمس الأعضاء الأخرى في المجلس إقامة الاتحاد فإن السلطنة "ستنسحب ببساطة من مجلس التعاون"، وأعاد الوزير إلى الأذهان ما سبق التصريح به من أن السلطنة "لن تنضم إلى العملة الخليجية الموحدة، ولا حاجة لتوسعة (درع الجزيرة)، ولن نحارب جيراننا". نحن- في مجلس التعاون- لم نتعود على مثل هذه التصريحات - خصوصاً من سلطنة عُمان التي عُرفت بالدبلوماسية الهادئة والتأني في اتخاذ القرار- رغم إيماننا الشديد بسيادة كل الدول الأعضاء واستقلال قرارها السياسي. وكنا دوماً نعالج جروحنا الغائرة بـ"الكتمان"، لأن ذلك أصلح وأجدى لمسيرة المجلس التي آمنّا بها وقبلناها ليكون المجلس الملاذ الآمن لنا من تقلبات الزمن وتداعيات التاريخ. ولقد راهن البعض على أن هذه التصريحات قد تنسف (قمة الكويت)، وأنها ستُصدّع جدران مجلس التعاون. وقد يحتاج الأمر لسنوات طويلة لإعادة ما تشقق في المجلس؛ إلا أن حكمة قادته تسامت فوق ذلك، وجاء قرار القمة معتدلاً، يحمل صوت العقل الراشد، والمسؤولية الكبيرة، حيث تم التوجيه باستمرار المشاورات واستكمال دراسة الموضوع. وكان ذلك البوصلة التي قادت سفينة القمة نحو شاطئ الأمان.
وكي نكون واقعيين، فإن أي موضوع يُطرح على القمة لا بد وأن يمرّ عبر القنوات الرسمية المعتادة في المجلس، وتقوم الأمانة العامة حال تلقيها أي طلب من أي دولة بتمرير ذلك الطلب على الدول وتتلقى مرئياتها في ذلك الشأن ثم يُناقش الطلب في اجتماع وزراء الخارجية. كما أن "الاتحاد" لا بد وأن يستكمل كافة إجراءاته القانونية بما في ذلك نوع هذا "الاتحاد" ومستلزماته واشتراطاته. كما أن الوقت قصير جداً للتعرف على مرئيات اللجنة المكلفة بوضع توصياتها في ذلك الشأن. كما أن تلك المرئيات ستستلزم بتعديلات تشريعية غير سهله في أنظمة الدول. كما أن الأمر يحتاج إلى برلمان خليجي، على غرار البرلمان الأوروبي. ونحن في واقع الأمر تجربتنا البرلمانية ما زالت "تحبو" في الخليج باستثناء تجربة الكويت، وهذا أيضاً يحتاج إلى تطوير العديد من المفاهيم والروئ على كافة المستويات لاستيعاب مفهوم "الاتحاد" الجديد.
كنا دوماً من المطالبين بعدم اتخاذ مجلس التعاون مواقف "ردة الفعل"، لأن ذلك يكون على حساب أشياء كثيرة قد تكون أكثر أهمية، كما شهدنا "حساسية" موضوع السيادة في مشاريع كثيرة ومهمة. وتوجد اتفاقيات لم يُستكمل التوقيع عليها من جميع الدول إلا بعد مرور 32 عاماً من عمر المجلس، بل إن الاتفاقية الاقتصادية- حتى يومنا هذا- لم يتم تطبيقها بكل استحقاقاتها، وما زالت بعض المشاريع غير مكتملة، ولم توافق عليها كل الدول، كونها تنال من سيادتها، ومنها العملة الموحدة واستكمال خطوات الاتحاد الجمركي، وإقامة المشاريع التجارية الصغيرة في الدول الأخرى، ومستلزمات المواطنة الخليجية في الدول الأخرى، وغيرها، بل إن الشراء الجماعي للدواء قد تراجع عما كان عليه قبل 15 عاماً، نظراً لمقاربات محلية في كل دولة.
لذلك، فإن بعض أبناء مجلس التعاون يرون أن تحقيق التكامل أولاً من الأمور المهمة قبل الحديث عن "الاتحاد". ونرجو ألاّ تتغلب العاطفة – في التباين بين مواقف الدول الخليجية حول "الاتحاد" - فتقوم الشعوب بتبادل العبارات "غير اللائقة" عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقصد الإساءة للدول والشعوب.
نعم لقد شهدنا في الأيام الماضية تبادلاً لإساءات كلامية ومشاهد مصورة غير مسؤولة نالت مواقف الدول ورموزها، وهذه ثقافة غريبة علينا ولا نحبذها، ولا تنسوا أن هنالك من "المندسين" الذين يحاولون تسميم الأجواء بين شعوب الخليج، كما يجب اعتبار ما جرى مجرد تكتيك مرحلي وليس استراتيجية، لأن الظروف الحالية حقاً لا تسمح بقيام "الاتحاد" عند بعض الدول، كما أنه عند دول أخرى فإن هذه الظروف تستدعي قيام (الاتحاد). ولكل فريق وجهة نظره التي يجب أن تُحترم، ولا يجوز للشعوب- أو بعض أفرادها- الدخول في حرب مستعرة حول موضوع مازال قيد الدراسة. وقد تتغير المواقف، لأنه لا ثبات في عالم السياسة. ونحن من حرصنا على تكاتف أبناء الخليج، ندعو الكتاب والمفكرين إلى "كلمة سواء" حتى لو اختلفت رؤاهم، وأن تكون كلماتهم وأفكارهم على مستوى المسؤولية لأنهم يقودون الرأي العام، بل على الآباء أن يوجهوا أبناءهم نحو عدم المشاركة في تبادل تلك الإساءات والمشاهد، عبر تويتر وغيرها، لأن ذلك لا يصب في مصلحة هذه الشعوب. وهذا ليس حظراً على الرأي- كما قد يتوهم البعض- بل ترشيداً لحسن استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لمزيد من التواصل لا الفرقة، وعدم بث العداء ومساحات الخلاف بين شعوب المنطقة، التي هي في الأساس موحدة حتى قبل قيام مجلس التعاون. هنالك حديث عن "المصلحة الجماعية لدول المجلس"، وهذا مصطلح "فضفاض" لا يمكن أن نجد له مدلولاً في الممارسات اليومية في عالم السياسة، ذلك أن المصلحة الجماعية لدول المجلس تحتم أن تكون جميع الدول موافقة ومتوافقة على أي موضوع يُطرح على طاولة اللقاء، وأن تُؤخذ جميع الآراء بكل احترام وتقدير دونما فرض أو إكراه، حيث إن لكل دولة من دول المجلس علاقات ومقاربات وممارسات ليست بالضرورة أن تكون نسخة كربونية من علاقات ومقاربات وممارسات الدول الأخرى. الحمد لله أنه تَرفّق بقمة الكويت، وجنّبها "النكوص"، الذي لا يفيد شعوب الخليج، والشكر لقادة دول المجلس الذين اهتدوا إلى حكمة النظر إلى المستقبل.